قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في ثواب الجهاد.
حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا سليمان بن كثير حدثنا الزهري عن عطاء بن يزيد عن أبي سعيد: (عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه سئل: أي المؤمنين أكمل إيماناً؟ قال: رجل يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله، ورجل يعبد الله في شعب من الشعاب قد كفى الناس شره)].
أورد أبو داود باباً في ثواب الجهاد، يعني: أجره وثوابه عند الله عز وجل، فأورد حديث أبي سعيد رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي المؤمنين أكمل إيماناً؟ فقال: رجل يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله)، فهذا يدلنا على فضل الجهاد؛ لأن صاحبه وصف بأنه أكمل المؤمنين إيماناً.
والجهاد يكون بالنفس والمال، ويكون بالنية، ويكون باللسان، ويكون بالقلم، كل ذلك يدخل تحت الجهاد في سبيل الله، ويكون أيضاً بمجاهدة النفس، وجميع هذه الأمور إنما هي تابعة لجهاد النفس؛ لأن جهاد النفس إذا وجد وجدت معه تلك الأشياء الأخرى وأثرت وأثمرت، وأما إذا كانت النفس لم تجاهد بل كانت واقعة في المعاصي، فإن فاقد الشيء لا يعطيه كما يقولون، ولكن من جاهد نفسه هو الذي يؤثر ويفيد، سواء في جهاده للكفار، أو في دعوته إلى الله عز وجل، أو في كتابته في الحق والدعوة إليه والدلالة عليه، أو في النية إذا كان عاجزاً وغير مستطيع، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان في غزوة تبوك: (إن بالمدينة لأقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم؛ حبسهم العذر) يعني: أنهم جاهدوا بنياتهم، فهم بقلوبهم وليسوا بأجسامهم.
وقد كان بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين لا يجدون ما يتمكنون به من الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتون إليه ويطلبون منه أن يحملهم، ثم الرسول صلى الله عليه وسلم يعتذر بأنه لا يجد ما يحملهم عليه، فيرجعون وهم يبكون؛ لأنهم ما تمكنوا من الجهاد في سبيل الله، وذلك بسبب فقرهم وقلة ذات يدهم، فهم وإن تخلفوا إلا أنهم مع المسلمين في الجهاد في سبيل الله بالنية.
وكثيراً ما يأتي في القرآن ذكر الجهاد بالنفس والمال، ويقدم ذكر الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، وذلك لأن الجهاد بالمال من أسباب الجهاد بالنفس؛ ففيه بذل الأموال من أجل السلاح ومن أجل المركوب وما إلى ذلك، وعثمان بن عفان رضي الله عنه في غزوة تبوك جهز ثلاثمائة بعير عليها أقتابها وأحمالها في سبيل الله رضي الله عنه وأرضاه، فالمال يكون فيه تمكين لأصحاب العذر الذين لا يقدرون على الجهاد أن يجدوا ظهراً يركبونه ويتمكنون من الجهاد، وكذلك الطعام والزاد وما إلى ذلك من حاجات المجاهدين في سبيل الله، وقد ذكر ابن القيم أن كل ما في القرآن من ذكر الجهاد بالنفس والمال فيه تقديم الأموال على الجهاد بالنفس إلا في آية واحدة، وهي: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] فقدم الأنفس على الأموال، وفي غير هذه الآية يأتي تقديم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس.
قوله: [(ورجل يعبد الله في شعب من الشعاب قد كفى الناس شره)].
الشعب هو: الفلاة تكون بين الجبلين، وهذه إشارة إلى العزلة، ولكن العزلة إنما تكون عند كثرة الفساد وعدم الفائدة من وراء الخلطة، أما إذا كان يترتب على الخلطة إصلاح وإفادة، فلا شك أنها خير من العزلة.