قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الهجرة هل انقطعت؟ حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي، أخبرنا عيسى عن حريز بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي عوف عن أبي هند عن معاوية رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله سلم يقول: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)].
أورد أبو داود [باباً في الهجرة هل انقطعت؟] وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الهجرة من مكة إلى المدينة انتهت بالفتح؛ لأنه بفتح مكة صارت دار إسلام، وقبل ذلك كانت دار كفر، وكان الصحابة يهاجرون منها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعد صلح الحديبية حصل الاتفاق الذي كان من ضمن ما شرطه الكفار على النبي صلى الله عليه وسلم أن من جاء من الكفار إلى المسلمين مسلماً فإنه يرد عليهم، وأما من جاء من المسلمين إلى الكفار مرتداً فإنه لا يرد، فالصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم ومنهم عمر وسهل بن حنيف تألموا وتأثروا من هذا الشرط، وكانوا يراجعون النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم يخبرهم بأنه رضي بهذا، فسكتوا وهم متألمون ومتأثرون، ولكن ماذا كانت النتيجة؟ كان الذين يسلمون ويهربون من الكفار لا يقبلهم الرسول صلى الله عليه وسلم بناءً على هذا الشرط، وهم لا يريدون أن يرجعوا إلى الكفار، فاجتمعوا وصاروا على ساحل البحر، وكلما جاءت عير لقريش اعترضوها، حتى ساء ذلك قريشاً، فرغبوا في أن يتخلصوا من هذا الشرط، فعند ذلك طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبلهم، فكان في ذلك مصلحة، ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم عندما يأتي شيء قد يكون فيه مشقة على النفس ولا تقبله النفس، يقول بعضهم: يا أيها الناس! اتهموا الرأي في الدين، وقد قال ذلك سهل بن حنيف في صفين لما أراد أهل الشام التحكيم، حيث كان الذين مع علي رضي عنه ومنهم سهل بن حنيف يرون أن يوقف القتال، وأن يصير الناس إلى التحكيم، فكان سهل يقول للذين يريدون أن يواصل القتال: يا أيها الناس اتهموا الرأي في الدين، ويذكر قصة صلح الحديبية وما حصل فيها، وأنهم كانوا رأوا شيئاً فكانت المصلحة بخلافه.
فالهجرة من مكة انتهت؛ ولهذا جاء في الحديث: (لا هجرة بعد الفتح) أي لا هجرة من مكة إلى المدينة بعد أن فتحت مكة، وصارت دار إسلام لكن بقي الجهاد والنية، وأنه إذا حصل الاستنفار من المسلمين فإنهم ينفرون للجهاد في سبيل الله.
وأورد أبو داود حديث معاوية رضي الله عنه: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تخرج الشمس من مغربها) يعني: في آخر الزمان، ومعنى هذا: أن الهجرة من بلاد الكفار إلى بلاد المسلمين باقية لا تنتهي، وإنما الذي انتهى الهجرة من مكة إلى المدينة؛ لأن مكة صارت دار إسلام، فالحديث يدل على عدم انقطاع الهجرة، وأما الحديث الذي سيأتي (لا هجرة بعد الفتح) فالمقصود بذلك: الهجرة المتحتمة لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما ما عدا ذلك فإن الهجرة مستمرة ولم تنقطع.