قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة قالا: حدثنا شريك، عن المقدام بن شريح، عن أبيه قال: (سألت عائشة رضي الله عنها عن البداوة؟ فقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله سلم يبدو إلى هذه التلاع، وإنه أراد البداوة مرة فأرسل إلي ناقة محرمة من إبل الصدقة، فقال لي: يا عائشة! ارفقي؛ فإن الرفق لم يكن في شيء قط إلا زانه، ولا نزع من شيء قط إلا شانه)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبدو، والبداوة: هي الذهاب إلى البادية، وليس المقصود سكنى البادية.
قوله: [(إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبدو إلى هذه التلاع)].
أي: يظهر ويذهب إلى تلك التلاع، والتلاع: هي الأماكن التي ينحدر فيها من علو إلى سفل.
وكون الإنسان يذهب للبادية إنما يكون في بعض الأحيان، وليس لسكنى البادية، ومعلوم أن الرسل الذين أرسلهم الله عز وجل كلهم من الحاضرة وليسوا من البادية، وكذلك هم من الرجال وليسوا من النساء، كما قال الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:109].
((رِجَالًا)) أي: ليسوا نساءً، ((مِنْ أَهْلِ الْقُرَى)) أي: ليسوا من أهل البادية، والذهاب إلى البادية في بعض الأحيان لا يخرج الإنسان من كونه حضرياً إلى كونه بدوياً، وأئمة اللغة الذين جمعوها كانوا يذهبون إلى البادية ويبقون الأشهر يدونون اللغة ويعرفون الكلام، ولم يكونوا بذلك بدواً، وكذلك ما ذكر الله عز وجل عن يوسف وإخوته: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [يوسف:100]، ليس معنى ذلك: أنهم من سكان البادية، وإنما ذلك مثل ما جاء في حق نبينا صلى الله عليه وسلم من أنه كان يذهب للبادية، وهم كذلك كانوا يذهبون.
وعلى هذا فقول الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:109] لا يعترض عليه بما جاء عن يعقوب وأبنائه أنهم جاءوا من البادية.
قوله: [(وأنه أراد البداوة)] أي: أن يذهب إلى البادية.
قوله: [(فأرسل إلي ناقةً محرمة من إبل الصدقة)] المحرمة: هي الناقة التي فيها صعوبة وليست ذلولاً؛ ولهذا يقولون: فلان يركب الصعب والذلول، يضربون به المثل في تحمل المشاق.
وقولها: (أرسل إلي ناقةً محرمة)، لا أدري ما الوجه في إرسالها، هل هو لحلبها، أو لغير ذلك؟! وأرشدها صلى الله عليه وسلم إلى الرفق مطلقاً، ولكن أتى به هنا إشارة إلى الرفق بها، وأنها وإن كانت صعبة فإنها ترفق بها ولا تقسو عليها.
قوله: [(إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه)]، يدلنا على فضل الرفق، وعلى أن الرفق محمود وأن ضده مذموم.