قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الاعتكاف.
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن عقيل عن الزهري عن عروة عن عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى قبضه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله: [باب الاعتكاف].
أبو داود رحمه الله وكذلك غيره من العلماء يذكرون الاعتكاف مع الصيام؛ لأن الاعتكاف -كما قال بعض أهل العلم -لا يكون إلا مع صيام، وأيضاً كون المشهور والمعروف فيه أنه يكون في رمضان وفي العشر الأواخر وذلك في حال الصيام، فناسب أن يأتي ذكر الاعتكاف مع الصيام أو بعد الصيام.
والاعتكاف في اللغة قيل: هو الحبس والمكث واللزوم.
وفي الاصطلاح: هو المكث في المسجد على وجه مخصوص.
فالحبس والمكث واللزوم كلها تطلق على المكث في المسجد، أو حبس النفس في المسجد، أو لزوم المسجد لطاعة الله عز وجل، ولهذا فإن المعنى الشرعي مطابق أو مندرج تحت المعنى اللغوي، والمعاني اللغوية تدخل فيها المعاني الشرعية، ولكن المعنى الشرعي أخص، والمعاني اللغوية أعم.
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأواخر حتى قبضه الله) يعني: حتى توفي، واعتكف أزواجه بعده، وهذا يدلنا على أن الاعتكاف سنة ومستحب، ولا يجب إلا بالنذر، فالإنسان إذا أوجبه على نفسه بنذر فإنه يلزمه ويجب عليه أن يفي بنذره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه).
فقول عائشة: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى قبضه الله) يدل على أنه حكم محكم غير منسوخ؛ لأن قولها: (حتى قبضه الله) يعني: أنه مستمر عليه حتى مات صلى الله عليه وسلم، وقولها: (ثم اعتكف أزواجه من بعده) يدلنا على أن الاعتكاف باقٍ وأنه سنة، وأنه فعله الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه معه، وكذلك فعل من بعده، وممن فعله أزواجه رضي الله تعالى عنهن، وفيه دليل على أن الاعتكاف إنما يكون في المساجد سواء للرجال أو للنساء، ويدل على اعتكاف النساء في المساجد إذا أمن عليهن من أي محذور بسبب المكوث في المسجد والبقاء فيه، ولكن ذلك يكون بإذن أزواجهن؛ لأن الاعتكاف تطوع ومستحب، فلا تفعله المرأة إلا بإذن زوجها، وتفعله حيث لا يكون هناك محذور، وحيث لا يترتب أو يخشى من ذلك مضرة عليها.
واعتكاف العشر الأواخر من رمضان فيه ليلة القدر، فالإنسان إذا كان معتكفاً العشر الأواخر فمعناه أن ذلك فيه تحر لها، وكون الإنسان ملازماً للمسجد يسأل الله ويرجوه ويتقرب إليه بالأعمال الصالحة في تلك الأيام والليالي التي فيها ليلة القدر -وهي ليلة خير من ألف شهر- فهي تعادل عبادة اثنين وثمانين سنة.