قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا مهدي حدثنا غيلان عن عبد الله بن معبد الزماني عن أبي قتادة رضي الله عنه بهذا الحديث زاد: (قال: يا رسول الله! أرأيت صوم يوم الإثنين ويوم الخميس؟ قال: فيه ولدت وفيه أنزل علي القرآن)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، حديث أبي قتادة، وأنه فيه زيادة: أنه سئل عن صوم يوم الإثنين والخميس فقال: (فيه ولدت، وفيه أنزل علي القرآن) وهذا في يوم الإثنين لا في يوم الخميس، وقيل: إن زيادة الخميس وهم؛ لأن الذي فيه ولادته وفيه إنزال القرآن عليه -أي: البدء في إنزال القرآن عليه- كان يوم الإثنين، وهذا يدلنا على فضل صيام يوم الإثنين، وأما صيام يوم الخميس فقد جاءت أحاديث أخرى تدل على صيام الإثنين والخميس، وأن الأعمال تعرض فيهما على الله عز وجل، وأنه صلى الله عليه وسلم يحب أن يعرض عمله وهو صائم، وقد جاء ما يدل على صوم الإثنين والخميس أحاديث عديدة، ولكن كونه يعلل بأنه يوم ولد فيه وأنزل عليه فيه القرآن هذا يدلنا على فضل صيام يوم الإثنين.
ثم إن بعض الذين فتنوا بالموالد يستدلون على إقامة مولد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث، وفي الحقيقة هذا الحديث ليس فيه دليل لهم؛ لأنهم في المولد لا يصومون، وإنما يأكلون الأطعمة ويتنافسون فيها، ويكثرون من أنواع الطعام، وهو خلاف ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(ذاك يوم ولدت فيه)] معناه: من أراد أن يحصل منه احتفاء بذلك اليوم فإن الطريق إلى ذلك بأن يصومه؛ لأنه يوم ولد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن فيه، أما أن يجتمع الناس فيه للتلاوة وقول المدائح وغيرها فهذا من الأمور المحدثة المبتدعة التي ما أنزل الله تعالى بها من سلطان، ولم تأت فيها سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما فعلها الصحابة الكرام ولا التابعون ولا أتباع التابعين، ومضت ثلاثمائة سنة كاملة لا يوجد شيء اسمه الاحتفال بالموالد، حتى جاء الرافضة العبيديون الذين حكموا مصر في القرن الرابع فأحدثوا بدعة الموالد، وقبل إحداث الرافضة العبيديين لها في القرن الرابع لم يكن لها وجود؛ ولهذا الكتب التي ألفت في تلك الحقبة وفي تلك الأزمان لا ذكر للموالد فيها أبداً لا مضافة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا إلى خلفائه الراشدين، ولا الصحابة أجمعين، ولا التابعين ولا أتباع التابعين.
فلو قال قائل: النصارى يحتفلون بميلاد عيسى، ونحن أولى أن نحتفل بميلاد محمد صلى الله عليه وسلم.
فنقول له: نحن مأمورون بمخالفة أهل الكتاب، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) فهذا تنفير لنا عن متابعتهم والأقتداء بهم، وإنما أمرنا بأن نقتدي بما جاء عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فالمولد بدعة في الدين ما أنزل الله تعالى بها من سلطان، والرسول صلى الله عليه وسلم بين للناس كل ما أمر بتبليغه، ولم يكن من ذلك هذه البدعة التي ابتدعها الرافضة العبيديون، وقلدهم من قلدهم فيها إلى هذا اليوم، ومنذ ذلك الوقت والناس بين فاعل لها ومنكر لها، ولكن قال عليه الصلاة والسلام: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) وهؤلاء الخيار لا وجود لهذا العمل عندهم أبداً، بل هو من محدثات الأمور، والنبي صلى الله عليه وسلم محبته يجب أن تكون في قلب كل مسلم، وفوق محبة كل محبوب بعد الله سبحانه وتعالى، فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله) ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم تابعة لمحبة الله، ويجب أن تكون محبة الرسول صلى الله عليه وسلم في قلب كل مسلم أعظم من محبته لنفسه، ومحبته لأبيه وأمه وابنه وبنته، وزوجته وصديقه وأقاربه، والناس أجمعين، قال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) لماذا؟ لأن نعمة الهداية إلى الصراط المستقيم نعمة الخروج من الظلمات إلى النور، هي أعظم وأجل نعمة، لا يساويها نعمة ولا يماثلها نعمة، أعظم نعمة أنعم الله تعالى بها على المسلمين أن هداهم للإسلام، وهذه النعمة ساقها الله للناس على يدي الرسول صلى الله عليه وسلم.
فإذاً: محبته يجب أن تكون أعظم من محبة الأب والأم والابن والبنت وسائر الناس أعظم من محبته لأصوله وفروعه وكل من له به علاقة، بل ومن سائر الناس أجمعين، فهذه هي المحبة التي يجب أن تكون، لكن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم بإقامة الموالد أو بالتمسح بالجدران والشبابيك لا يصح، بل محبته صلى الله عليه وسلم باتباعه، وهناك آية في القرآن يسميها بعض العلماء: آية الامتحان والاختبار، وهو أن من يدعي محبة الله ورسوله فعليه أن يقيم البينة، ومعلوم أن البينات لا بد منها في الدعاوى، فكون إنسان يدعي على إنسان مالاً فمجرد الدعوى لا يثبت له بها الحق أبداً حتى يقيم البينة، والبينة شهود عدول أو اعتراف المدعى عليه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لو أعطي الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، لكن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه) فكذلك في أمور الدين كمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم لا بد فيها من إقامة البينة على أن العبد محب للرسول صلى الله عليه وسلم، فما هي البينة؟ البينة هي اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه الآية هي قول الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]، هذه آية الامتحان والاختبار، وهي أن من يدعي محبة الله ورسوله عليه أن يقيم البينة، والبينة هي اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، أما أن تكون محبة الرسول صلى الله عليه وسلم مجرد دعاوى وغلو، ثم يعصى الرسول صلى الله عليه وسلم ويخالف، ويعبد الله فيما ابتدع مما لم يكن جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا لا يجوز، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد) وقال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) وبعض الناس يمكن أن يقول: إن الإنسان الذي يفعل هذا قصده طيب، والإنسان يؤجر على قصده ونيته، والإنسان هو على خير ما دام قصده طيباً، فلو أنه فعل أمراً ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم يشفع له حسن قصده.
نقول: هذا كلام غير صحيح؛ لأنه لا بد مع حسن القصد أن يكون العمل مطابقاً للسنة؛ لأن العمل الذي يقبل عند الله لا بد فيه من أمرين اثنين: الأول: أن يكون خالصاً لوجه الله.
الثاني: أن يكون مطابقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإن فقد شرط الإخلاص رد على صاحبه، وإن فقد شرط الاتباع رد على صاحبه، ودليل رده على صاحبه إذا فقد شرط الإخلاص قول الله عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] ودليل رد العمل إذا كان غير مطابق للسنة قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد) متفق عليه، وفي لفظ لـ مسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
فإذاً: لا بد من الأمرين: إخلاص، ومتابعة، لا بد من تجريد الإخلاص لله وحده، ولا بد من تجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا هو مقتضى أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ لأن مقتضى أشهد أن لا إله إلا الله الإخلاص، ومقتضى أشهد أن محمداً رسول الله اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والسير على نهجه، وأن يكون العمل مطابقاً لسنته صلى الله عليه وسلم.
ومما يوضح أن حسن القصد لا يكفي ما جاء في الصحيح عن أحد الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم أنه في يوم عيد الأضحى ذبح أضحيته قبل الصلاة؛ لأنه يعلم أن الناس بحاجة إلى اللحم، وأنهم مشتهون للحم، فأراد أن تذبح أضحيته قبل الصلاة وتطبخ فإذا جاء الناس من المصلى وإذا اللحم قد طبخ، فتكون أضحيته أول ما يؤكل منها، فيقدمها للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما صنع قال: (شاتك شاة لحم)؛ لأنها ما وقعت في الوقت المحدد؛ لأن الذبح لا يكون إلا بعد صلاة العيد بعد أن يرجع الناس من المصلى، وقبل أن يخرجوا المصلى لا يذبحون، ولو ذبحوا ما أجزأهم ذلك، فهذا الصحابي قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (شاتك شاة لحم) فكان قصده طيباً وحسناً، ولا إشكال في حسن القصد هذا، لكن العمل لما وقع غير مطابق للسنة لم يعتبر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (شاتك شاة لحم) يعني: مثل الذبيحة التي تذبح في أي يوم من السنة للأكل، وأما أيام الذبح والنحر فهي أربعة: يوم العيد- عيد الأضحى - وثلاثة أيام بعده التي هي أيام التشريق.
نقل الحافظ ابن حجر في فتح الباري نقلاً عن بعض أهل العلم قال: وفي هذا دليل على أن العمل لا يعتبر إلا إذا وقع مطابقاً للسنة، ولا يكفي حسن قصد الفاعل.
يعني: إن العمل لا يعتبر إلا إذا كان مطابقاً للسنة ولو كان قصد صاحبه حسناً، وليس معناه: أنه يصير سنة وإن كان بدعة، والرسول صلى الله عليه وسلم بين للصحابي أن شاته شاة لحم.
الدليل الثاني على ذلك: أن أبا عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه جاء إلى أناس في المسجد متحلقين وكل واحد منهم معه حصى، وفي كل حلقة واحد يقول: هللوا مائة، فيهللون مائة، ثم يقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة، ثم يقول كبروا مائة، فيكبرون مائة، وعند ذلك وقف على رءوسهم أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وقال: ما هـ