قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في تعظيم الزنا.
حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن منصور عن أبي وائل عن عمرو بن شرحبيل عن عبد الله رضي الله عنه قال: قلت: (يا رسول الله! أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قال: فقلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يأكل معك، قال: قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك، قال: وأنزل الله تعالى تصديق قول النبي صلى الله عليه وسلم: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان:68] الآية)].
أورد أبو داود باب تعظيم الزنا، يعني: بيان خطورته؛ لأن فيه إفساد الفراش، وفيه اختلاط الأنساب، ويلحق بالزوج من ليس من أولاده، ففيه أمور خطيرة وسيئة تترتب على ذلك، فهو أمر خطير وعظيم وليس بالأمر الهين.
وأورد أبو داود حديث ابن مسعود رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك)، وهذا هو أعظم ذنب، فأظلم الظلم وأبطل الباطل وأعظم الذنوب الشرك بالله عز وجل، وهو أن يعبد العبد مع الله غيره وأن يشرك مع الله غيره بالعبادة، وهنا في هذه الجملة قال صلى الله عليه وسلم: (أن تجعل لله نداً وهو خلقك)، فأشار إلى الخلق؛ لأن الخالق هو الذي يجب أن يعبد، وكيف يعبد الإنسان مع الله من كان مخلوقاً كائناً بعد أن لم يكن؟! فالمخلوق كان معدوماً فأوجده الله، والعبادة إنما تكون للخالق وحده لا شريك له.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (أن تجعل لله نداً وهو خلقك) فيه تنبيه إلى سوء وفساد عقول الذين يشركون مع الله غيره مع أنه هو الخالق وحده لا شريك له، كما أنه المتفرد بالخلق والإيجاد، فهو الذي يجب أن يفرد بالعبادة وحده لا شريك له.
ولهذا فإن كون الإقرار بأن الله هو الخالق الرزاق المحيي المميت هذا مما أقر به الكفار الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن ذلك لم يدخلهم في الإسلام ولم ينفعهم؛ لأنهم لم يفردوا العبادة لله عز وجل، ولم يخصوا الله عز وجل بالعبادة التي هي مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، والتي هي معنى لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى.
فالكفار الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مقرين بتوحيد الربوبية، وأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت، ولكنهم كانوا غير مقرين بالألوهية، ولهذا يقولون كما حكى الله عز وجل عنهم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] أي: أنهم يجعلون مع الله آلهة أخرى، ويعبدون مع الله مخلوقات كانت بعد أن لم تكن، والعبادة لا تكون مقبولة عند الله إلا إذا كانت خالصة لله، ومطابقة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن فقد شرط الإخلاص وحصل الشرك ردت على صاحبها ولو كان العمل الذي أتي به حسناً ومطابقاً للسنة، فإنه يرد لكونه أشرك مع الله فيه غيره، وكذلك لو أن العمل كان خالصاً لله ولكنه مبني على بدعة وعلى مخالفة السنة فإنه يكون مردوداً على صحابه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، وهذه الرواية متفق عليها، وفي لفظ لـ مسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) يعني: فهو مردود عليه.
فلابد من الإخلاص ولابد من المتابعة، فتجريد الإخلاص لله وحده هو مقتضى: (أشهد أن لا إله إلا الله)، وتجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم هو مقتضى: (أشهد أن محمد رسول الله)، فالشهادتان متلازمتان لابد منهما ولا تكفي واحدة عن الأخرى، وكذلك مقتضى الشهادتين: إخلاص العبادة لله، والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لابد منهما جميعاً، وإذا اختل أحد هذين الشرطين فإن العمل يكون مردوداً على صاحبه وغير مقبول عند الله عز وجل.
ثم إنه يأتي كثيراً في القرآن تقرير توحيد الربوبية، وليس المقصود من تقريره إثباته على أحد ينكره، بل الذين خوطبوا بذلك هم أناس مقرون به، وهم كفار قريش الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا مقرين بتوحيد الربوبية، ولكنه يقرر ذلك من أجل الإلزام بتوحيد الألوهية، ولهذا يقولون: توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية، وتوحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية، ومعنى مستلزم: أن من أقر بأن الله خالق رازق يلزمه أن يعبد الله وحده، ولهذا قال في الحديث: (أن تجعل لله نداً وهو خلقك)، وتوحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية، أي: أن الذي يعبد الله وحده ويخصه بالعبادة لا يمكن أن ينكر أن يكون الله هو الخالق والرازق وحده، بل هو مقر بهذا ضمناً، فتوحيد الألوهية إذا وجد فإن توحيد الربوبية موجود، وتوحيد الربوبية قد يوجد ولا يوجد توحيد الألوهية كما هو شأن الكفار الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا يأتي في القرآن كثيراً تقرير توحيد الربوبية للإلزام بتوحيد الألوهية، كما قال الله عز وجل: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل:60]، هذا السياق كله من أجل: {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل:60]، {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا} [النمل:61]، أتُي بهذا كله من أجل ((أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ))، أي: هل الذي يتفرد ويستقل بهذا ولا يشاركه أحد يجعل معه آلهة؟ فأين العقول؟ وكيف تضيع العقول؟ وكيف تعبد آلهة كانت بعد أن لم تكون؟ فالآلهة التي عبدها الكفار كانت عدماً فأوجدها الله، ثم مع هذا يجعل لها نصيب من العبادة! بل العبادة يجب أن تكون للذي استقل، وانفرد بالخلق والإيجاد، فكما أن الله عز وجل هو المتفرد بالخلق والإيجاد فيجب أن يفرد بالعبادة، ولهذا يأتي كثيراً في القرآن تقرير هذا المعنى، والمقصود منه الإلزام لهؤلاء؛ لأن توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية.
فقوله: (أن تجعل لله نداً وهو خلقك) هذا تنبيه وإشارة إلى أن الخالق هو الذي يجب أن يفرد بالعبادة وحده لا شريك له.
وقوله: (أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك)، فقد كانوا يقتلون أولادهم خشية الفقر، والله عز وجل يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء:31]، وهذا في سورة الإسراء، وقال في سورة الأنعام: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:151]، ففي سورة الإسراء قال: ((خَشْيَةَ إِمْلاقٍ)) يعني: أن الفقر متوقع وليس بواقع، ولهذا قدم الأولاد فقال: ((نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ)) فالأولاد قد يكونون سبباً في رزق الوالد، فقدم الأولاد على الوالدين للإشارة إلى أن الأولاد قد يكونون سبباً في رزق الوالدين.
وفي سورة الأنعام قال عز وجل: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:151] يعني: من الفقر، فلما كان الفقر واقعاً قدم الوالدين على الأولاد فقال: ((نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ)).
قوله: (قال: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك)، فالزنا خطير، ولكنه إذا كان مع حليلة الجار فإنه يكون أسوء وأسوء؛ لأن الجار له حق، وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)، وقال عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره)، وجاءت أحاديث كثيرة في إكرام الجار والنهي عن إيذائه، فإذا كان الزنا في حد ذاته أمر خطير وأمر عظيم فإنه إذا كان مع حليلة الجار يكون أسوأ وأسوأ، ويكون أشد وأعظم.
وقوله: (وأنزل الله تصديق ذلك -أي: تصديق نبيه- فقال: ((وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ)))، وهذه الآية فيها نفس الترتيب الذي جاء في الحديث.
وقوله: (تصديق ذلك) لا يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ويتكلم من عند نفسه، وأن كلامه ليس من عند الله، لا، فالحديث والسنة من عند الله، والقرآن من عند الله، فالكل من عند الله، كما قال عز وجل: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، وقد جاءت أحاديث كثيرة تدل على أن السنة وحي من الله، كما في الحديث الصحيح الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يغفر للشهيد كل شيء) ثم قال: (إلا الدين سارني به جبريل آنفاً)، يعني: أن هذا الاستثناء جاء به جبريل منبهاً ومبيناً أنه يستثنى الدين، فالسنة وحي من الله عز وجل، والحديث قد يكون في القرآن ما يطابقه، كما جاء عن بعض السلف عند قوله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أصحاب النار)، جاء أنه قال: إن هذا الحديث تأملته فوجدت مصداقه في كتاب الله، قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود:17] يعني: أن هذا الحكم تطابق عليه القرآن والسنة، وليس معنى ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم يأتي بشيء ليس من عند الله، بل كل ما يأتي به الرسول صلى الله عليه