قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من أنكر ذلك على فاطمة بنت قيس رضي الله عنها.
حدثنا نصر بن علي أخبرني أبو أحمد حدثنا عمار بن زريق عن أبي إسحاق قال: كنت في المسجد الجامع مع الأسود فقال: أتت فاطمة بنت قيس عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: (ما كنا لندع كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة لا ندري أحفظت ذلك أم لا؟)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: باب من أنكر ذلك على فاطمة، يعني: روايتها أن المطلقة المبتوتة لا سكنى لها ولا نفقة، وقد سبق أن مر أن ممن أنكر ذلك أيضاً على فاطمة عائشة وكذلك مروان بن الحكم، وسيذكرهم هنا، وذكر قبل ذلك عمر رضي الله عنه.
قوله: [عن أبي إسحاق قال: كنت في المسجد الجامع مع الأسود فقال: أتت فاطمة بنت قيس عمر بن الخطاب فقال: (ما كنا لندع كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة لا ندري أحفظت ذلك أم لا؟)].
وقول عمر رضي الله عنه: (كتاب ربنا) يعني: ما جاء في القرآن في قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ} [الطلاق:6] أي: وهي من المطلقات، إذاً: فلها السكنى، وكان عمر رضي الله عنه ينقل عنه أن لها السكنى والنفقة معاً، والمسألة خلافية، فعدد من الصحابة منهم ابن عباس قالوا: إنها لا سكنى لها ولا نفقة، كما جاء في حديث فاطمة، وعمر رضي الله عنه وغيره قالوا: لها السكنى والنفقة، والقول الثالث: أن لها السكنى دون النفقة، وقد ذكرنا أن الصحيح هو ما دل عليه حديث فاطمة بنت قيس: من أنها لا سكنى لها ولا نفقة.
وقوله: (وسنة نبينا) قال بعض أهل العلم: إن هذا غير محفوظ ولا ثابت؛ لأنه لم يأت شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن لها النفقة، بل الذي جاءت به السنة أنها لا نفقة لها، وقد جاء في بعض الروايات: أنه إنما تكون النفقة لمن تكون لها رجعة، وأما المبتوتة والبائنة فهذه لا سبيل للمطلَّق إليها، إذاً: فلا سكنى لها ولا نفقة.
ويمكن أن يحمل قوله: (سنة نبينا) على الطريقة، أي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم طريقته القرآن، فقد جاءت سنته وفقاً لما جاء في القرآن.
فيمكن أن يقال: إن المقصود بالسنة: الطريقة، وتكون من جنس قوله: (من رغب عن سنتي فليس مني)، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم موافقة لما جاء في القرآن، فقد قالت عائشة: (كان خلقه القرآن)، فكل ما هو في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو سنة؛ لأن السنة لها أربعة إطلاقات: الأول: تأتي السنة ويراد بها الكتاب والسنة، فكل ما جاء في الكتاب والسنة فهو سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، أي: طريقته، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (فمن رغب عن سنتي فليس مني)؛، فليس المقصود بقوله (سنتي) ما جاء في الحديث فقط، بل ما جاء في الكتاب والسنة جميعاً.
والإطلاق الثاني: أن السنة يراد بها الحديث خاصة دون القرآن، وهذا من أمثلته ما يذكره شراح الحديث وكذلك الفقهاء عندما يجملون الأدلة على المسألة المعينة ثم يفصلونها فيما بعد، فيقولون: وهذه المسألة دل عليها الكتاب والسنة والإجماع والمعقول، فأما الكتاب فقول الله تعالى كذا، وأما السنة فقول الرسول صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، وأما الإجماع فقد حكى فلان الإجماع على كذا، وأما المعقول فالمعنى كذا وكذا.
فحيث عطفت السنة على الكتاب فإنه يراد بها خصوص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
والإطلاق الثالث: أن السنة يراد بها ما يقابل البدعة، كأن يقال: هذه سنة وهذه بدعة، ويقال: هذا سني وهذا بدعي، فما يقابل البدعة يقال له: السنة، ومنه المؤلفات التي ألفها العلماء المتقدمون في العقيدة باسم السنة، مثل السنة لـ ابن أبي عاصم، والسنة لـ محمد بن نصر المروزي، والسنة لللاكائي، والسنة للطبراني، والسنة لـ عبد الله ابن الإمام أحمد، وغيرها من المؤلفات التي هي باسم السنة، والمراد بها: ما يعتقد طبقاً للسنة ومجانباً البدعة، وكذلك أبو داود رحمة الله عليه له كتاب في كتاب السنن اسمه: (كتاب السنة)، وهو في العقيدة، وأورد فيه مائة وخمسين حديثاً تقريباً كلها في العقيدة، فالمقصود بالسنة العقيدة أو ما يعتقد طبقاً للسنة.
والإطلاق الرابع في اصطلاح الفقهاء: أن السنة يراد بها المندوب أو المستحب، فعندما يأتي في كتب الفقه: يسن كذا، ويندب كذا، ويستحب كذا -وهي بمعنى واحد- أي: أنه ليس بركن ولا واجب، فما لم يكن ركناً ولا واجباً يقال له: سنة، ويقال له: مستحب، ويقال له: مندوب، وهو ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، وهو ما يطلبه الشارع طلباً غير جازم، فما كان هكذا فإنه يقال له: السنة، وهذا في اصطلاح الفقهاء.
إذاً: فقول عمر رضي الله عنه: (كتاب ربنا وسنة نبينا) يمكن أن يقال: المقصود بالسنة طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو ما يشمل الكتاب والسنة.