قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عمرو بن مرزوق أخبرنا شعبة عن قتادة عن النضر بن أنس عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الحشوش محتضرة فإذا أتى أحدكم الخلاء فليقل: أعوذ بالله من الخبث والخبائث)].
سبق تحت ترجمة ما يقوله إذا دخل الخلاء: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد دخول الخلاء قال: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) أو: (أعوذ بالله من الخبث والخبائث)، إما هذه العبارة وإما هذه العبارة.
وقد ذكر أبو داود رحمه الله هاتين الصفتين: الأولى من طريق حماد بن زيد، والثانية من طريق عبد الوارث بن سعيد ثم ذكر أن رواه شعبة رواه عن عبد العزيز وأنه قال: (اللهم إني أعوذ بك) وقال مرة: (أعوذ بالله).
ثم قال: (وقال وهيب: (فليتعوذ بالله))، يعني: بصيغة الأمر، وسبق أن أورد أبو داود رحمه الله الحديث من طريق شعبة وفيه الإشارة إلى الطريقين: الطريق الموافقة لطريق حماد المتقدمة في الإسناد الذي قبله، والطريق الموافقة لطريق عبد الوارث بن سعيد، وبعد ذلك قال وهيب عن شعبة: (فليتعوذ)، ولم يأت ذكر الرواية التي فيها وهيب التي أشار إليها المصنف، فلا أدري هل تركت وأشار الشارح إليها دون أن يسند الحديث، أو ذكر وهيب فيه شيء من التصريف والتحريف؛ لأن الحديث الذي بعده عن عمرو بن مرزوق هو عن زيد بن أرقم وهو بنفس الصيغة التي ذكرها عن وهيب، وهي بلفظ الأمر: (فليتعوذ بالله من الخبث والخبائث) وهناك نسخة أخرى فيها: (وقال وهيب: عن عبد العزيز) ورمز لها (ع) و (س) وهذه النسخة هي نسخة محمد عواض وعلى حسب الرموز هي عند ابن داسة وابن الأعرابي.
إذاً: هي الرواية المتقدمة إلا أنها لم تذكر، فما دام أنه قال: عن عبد العزيز فمعناه أن الرواية لم تذكر، وإنما ذكرت رواية شعبة ولم تذكر رواية وهيب.
والحديث الذي أورده أبو داود رحمه بعد الحديث الأول هو حديث عمرو بن مرزوق وهو عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أحدكم الخلاء فليقل: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث).
وهو مثل اللفظ الذي أشار إليه المصنف من رواية وهيب عن عبد العزيز التي لم يذكرها المصنف.
وقوله: (فليتعوذ بالله من الخبث والخبائث) هذا الحديث حديث قولي وليس حديثاً فعلياً؛ لأن الروايات المتقدمة فعلية، أي: من فعله صلى الله عليه وسلم، وأما هذا فهو من أمره صلى الله عليه وسلم.
وجاء في بعض الأحاديث: (ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدهم الخلاء أن يقول: بسم الله)، وعلى هذا فيجمع بين الذكر والتسمية فيقال: (بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث).
والخبث: جمع خبيث، والخبائث: جمع خبيثة، وفيه الإشارة إلى أن المقصود شياطين الجن ذكورهم وإناثهم؛ لأنه قال في أثناء الحديث: (إن هذه الحشوش محتضرة)، يعني: أن الكنف أو أماكن قضاء الحاجة تحضرها الشياطين، أي: شياطين الجن.
ومن المعلوم أن الجن يتخلص منهم بذكر اسم الله عز وجل، وأما الإنس فلا يتخلص منهم إلا بالمعاملة الطيبة، ولهذا جمع الله عز وجل بين ذكر المعاملة التي يعامل بها الإنس ويحصل بها اكتسابهم وبين ما يقال للتخلص من شر الجن، فقال سبحانه: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]، فالإنسي إذا حصل منه شيء وقوبلت إساءته بالإحسان فإن ذلك ينفع بإذن الله.
وقد يحصل من بعض الناس أنه لا ينفع فيه الإحسان، ومع الإحسان يتمرد، لكن في الغالب أن المعاملة الطيبة ومقابلة الإساءة بالإحسان أن ذلك ينفع: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:34 - 35]، وليس كل أحد يصبر على أن يقابل السيئة بالإحسان، بل هناك من يقابل السيئة بالسيئة.
ومقابلة السيئة بالسيئة سائغ؛ لقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40]، وقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل:126]، لكن الصبر والتحمل ومقابلة الإساءة بالإحسان هذا هو الذي ينفع في التخلص من أذى الإنس.
أما الجن فقال الله عز وجل فيهم: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:36]، يعني: أن هذا هو الذي يخلص منه، ولهذا جاء في بعض الأحاديث: أن الإنسان إذا دخل بيته وقال: بسم الله، قال الشيطان لأتباعه ولأصحابه ولجنده: لا مبيت لكم.
معناه: أنه إذا دخل بيته وسمى الله، ثم إذا أكل أو شرب سمى الله عز وجل قال الشيطان: لا مبيت ولا عشاء؛ لأن ذكر الله عز وجل يطردهم ولا يتمكنون من الوصول إلى ما يريدون مع ذكر اسم الله عز وجل.
وقوله: (إن هذه الحشوش محتضرة)، أي: تحضرها شياطين الجن؛ ولذا قال: (فإذا دخل أحدكم الخلاء فليقل: أعوذ بالله من الخبث والخبائث).