قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا كثير بن عبيد حدثنا محمد بن خالد عن معرف بن واصل عن محارب بن دثار عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق)].
أورد أبو داود الحديث عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [(أبغض الحلال إلى الله الطلاق)] وهو بمعنى ما تقدم من أنه إذا كان من غير أمر يقتضيه ومن غير حاجة، أما إذا كان هناك حاجة إليه وهناك أمر يقتضيه فإن المصلحة فيه، وليست في غيره؛ لأن البقاء على شقاق وعلى خلاف وعلى تنافر قلوب وعلى كلام سيء من الطرفين غير صحيح، والمصلحة في التخلص منه، ويكون بذلك محبوباً وليس مبغوضاً.
وقد يستشكل ما ورد في الحديث من كون الله تعالى يحل شيئاً يبغضه.
والجواب أنه قد يكون الشيء محبوباً باعتبار مبغوضاً باعتبار، فالطلاق يكون محبوباً باعتبار أن فيه التخلص من المشاكل وعدم الوئام، ويكون مبغوضاَ إذا كان لغير أمر يقتضيه وترتب على ذلك الانفصال بين شخصين بينهما الوئام والمودة، ثم حصل من ذلك ضرر على الزوجة بترك زوجها لها من غير أمر يقتضي ذلك.
فاجتماع البغض والمحبة في الشيء وارد باعتبارين، ومثاله كذلك صاحب الكبيرة، فهو محبوب مبغوض، محبوب باعتبار ما عنده من الإيمان، مبغوض باعتبار ما عنده من الفسوق والعصيان، ولهذا فأهل السنة والجماعة يقولون عن مرتكب الكبيرة: مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، يحب على ما عنده من الإيمان ويبغض على ما عنده من الفسوق والعصيان.
فاجتمع فيه المحبة والبغض، ويدل لاجتماعهما بيت الشعر الذي يتحدث عن الشيب، فالشيب إذا نظر إلى ما قبله -وهو الشباب- صار غير مرغوب فيه وصار مبغوضاً، ولكنه إذا نظر إلى ما بعده -وهو الموت- صار محبوباً، يقول الشاعر الشيب كره وكره أن نفارقه فاعجب لشيء على البغضاء محبوب وقد يقال أيضاً: ألا يعارض هذا الحديث ما تقرر عند السلف من أن الإرادة الشرعية يحبها الله تعالى، فكيف يريد الله عز وجل الطلاق شرعاً وهو يبغضه؟! والجواب عن ذلك أنه عند وجود مقتضيه يكون مأموراً به ومرغباً فيه، بل قد يكون واجباً، وعند عدم وجود شيء يقتضيه يكون غير محبوب.
وقد ذكر بعض أهل العلم أن الطلاق قد يكون حراماً، وذلك إذا كان طلاقاً بدعياً، بأن يكون في الحيض، أو يكون ثلاثاً، أو يكون في طهر جامعها فيه، فإنه هنا لا يجوز.
ويكون واجباً إذا لم يتم الوئام والوفاق، ثم بعث حكمان فرأيا أن المصلحة في الطلاق وعدم البقاء، فعند ذلك يتعين الطلاق ويكون واجباً.
وهذه الطريق الثانية فيها أن محارب بن دثار يضيفه إلى عبد الله بن عمر ويرفعه عبد الله بن عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي الطريق الأولى قال محارب: [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم] فهو من قبيل المرسل؛ لأن قول التابعي: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا) هو من قبيل المرسل، وهذا في اصطلاح المحدثين، وأما في اصطلاح الفقهاء -وكذلك أيضاً في اصطلاح المحدثين أحياناً- فالمرسل يطلق على المنقطع، ولهذا يقولون في شخص متقدم أو متأخر: يرسل كثيراً.
أي: يضيف إلى من فوق شيخه.
فيكون تعريف المرسل بهذا أوسع من التعريف المشهور عند المحدثين الذي يراد به ما إذا قال التابعي -سواءٌ أكان صغيراً أم كبيراً-: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا.
وإنما كان المرسل غير معتمد وغير محتج به عند المحدثين لأن المحذوف يمكن أن يكون صحابياً، ويمكن أن يكون تابعياً، وعلى احتمال كونه تابعياً فإنه يحتمل أن يكون ثقة وأن يكون ضعيفاً، فمن أجل هذا اعتبروه من قبيل المردود، وليس من قبيل المقبول المحتج به للاحتمال.
أما لو كان المرسل سقط فيه صحابي فقط فهذا لا يؤثر؛ لأن جهالة الصحابة لا تؤثر، وإنما الإشكال في احتمال غيرهم.
ولهذا فمن عرفه بأنه ما سقط منه صحابي لم يصب في هذا التعريف، كما قال صاحب البيقونية: (ومرسل منه الصحابي سقط) فهذا التعريف غير صحيح؛ لأنه لو كان الذي سقط منه صحابياً فليس في ذلك إشكال، وإنما الإشكال في احتمال سقوط غيره من التابعين؛ لأنه يمكن أن يكون صحابياً أو تابعياً، وعلى فرض أنه تابعي فيحتمل أن يكون ثقة أو ضعيفاً، فيأتي الإشكال من جهة احتمال الضعف.
والإسناد الذي أورده أبو داود هنا رجاله محتج بهم، ومن العلماء من صحح الحديث، مثل الحاكم، ومنهم من أعله بالإرسال ورجح المرسل الأول الذي ذكره أبو داود عن محارب بن دثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً ذكر أن في رواته محمد بن خالد قد اضطرب فيه، فرواه على عدة أوجه، والاضطراب يمكن أن يكون مؤثراً، أما قضية الإرسال فمن المعلوم أن من العلماء من قال: إن الوصل زيادة من ثقة، فتكون مقبولة.
وعلى هذا فيكون الحديث لا بأس به.
أما إذا كان الاضطراب الذي ذكر عن محمد بن خالد الذي هو أحد رواته مؤثراً يقدح فيه فإنه يكون على ذلك ضعيفاً، وقد ضعفه بعض أهل العلم، مثل الشيخ الألباني رحمه الله، فإنه ضعف هذا الحديث من أجل الإرسال، وقال: إن الذين أرسلوه أوثق من الذي وصله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.