قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عبيد حدثنا ابن ثور عن معمر أخبرنا ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العينين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تُمني وتشتهي، والفرج يصدق ذلك ويكذبه)].
قول ابن عباس [ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قاله أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم] المقصود باللمم صغائر الذنوب، يشير بذلك إلى قول الله عز وجل: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32] يعني الذنوب التي هي صغائر، ومعلوم أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر، فـ ابن عباس رضي الله تعالى عنه يبين أن اللمم الذي جاء ذكره في القرآن الكريم يفسر بما جاء في حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم [(إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة)].
قال صلى الله عليه وسلم: [(فزنا العينين النظر)]، فسمى مقدمة الزنا زنا وأطلق على المقدمة اسم النهاية، وذلك لأن النظر ومداومة إطلاق النظر قد يتبعه وقد يترتب عليه حصول الزنا.
قال: [(وزنا اللسان المنطق)] يعني الكلام، وذلك بأن يأتي بكلام فيه تعريض أو فيه تصريح أو ما إلى ذلك، فهو مقدمة ووسيلة إلى الزنا.
قال: [(والنفس تمني وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)]، فما يكون من الفرج هو النهاية، فإذا حصل الزنا -والعياذ بالله- فإنه يكون قد حصل التصديق لهذه المقدمات ولهذه الوسائل ولهذه البدايات، فصارت النهاية وقوع الجريمة ووقوع الضرر الكبير ووقوع الجرم العظيم الذي هو الزنا.
وقوله: [(أو يكذبه)] يعني: فلا يحصل شيء، وإنما تنتهي المسألة عند الصغائر، لكن الصغائر قد تلتحق بالكبائر، وذلك بكون الإنسان يداوم ويصر عليها، فإنها تضخم وتعظم حتى تلتحق بالكبائر، كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار.
فالكبيرة مع الاستغفار تتضاءل وتضمحل وتتلاشى، والصغيرة مع الإصرار تضخم وتعظم؛ لأن صاحبها ليس عنده اكتراث وليس عنده خوف من الله عز وجل، فهو مصر عليها ومداوم عليها، فقد تلتحق بالكبائر.
والصغائر يكفرها اجتناب الكبائر، كما في جاء في الحديث (الجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان والعمرة إلى العمرة مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر).
وقوله: [(إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا)] الكتابة هنا كتابة قدرية؛ لأن الكتابة تكون شرعية وتكون قدرية كونية، والكتابة القدرية الكونية هي التي في اللوح المحفوظ، فما كتب الله في اللوح المحفوظ فإنه يقع، وما قدر الله أن يكون فإنه لابد من أن يكون، أما الكتابة الشرعية فمثل قول الله عز وجل: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] يعني: فرضنا وأوجبنا وحكمنا بأن النفس بالنفس، ولكن الكتابة المذكورة في الحديث كتابة قدرية.
والمقصود بقوله: [(ابن آدم)] فيه أقوال، والذي يظهر أن المقصود بذلك من كان كتب عليه ذلك، ولا يعني أن كل بني آدم كتب عليهم ذلك، فإن من عباد الله ومن خلق الله ومن أولياء الله من يعصمه الله عز وجل من ذلك، فالكتابة ليست على كل أحد، والعموم فيها ليس بمراد على الإطلاق؛ لأن من بني آدم رسل الله، ومنهم الصديقون، ومنهم أولياء الله عز وجل الذين يبتعدون ويحرصون على الابتعاد عن الصغائر فضلاً عن الكبائر، وعلى هذا فيكون المراد بابن آدم من حصل منه ذلك، أما من عصمه الله ومن وفقه الله فلم يكن من أهل الزنا فإنه لا يحصل منه ذلك، وليس مكتوباً عليه؛ لأن المكتوب لابد من أن يقع، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
وقد يقال: إذا كانت هذه الأمور مكتوبة على ابن آدم لا محالة فهل يحاسب على فعله؟
و صلى الله عليه وسلم نعم يحاسب على فعله؛ لأن كل شيء مكتوب على ابن آدم، فالكفر مكتوب على ابن آدم، والإسلام مكتوب على ابن آدم، وكل ما يقع ويحصل في الوجود لبني آدم مكتوب على ابن آدم، لكن لا يحصل ذلك الذي كتب عليه من غير اختياره ومن غير إرادته، وليس هو مجبوراً على ذلك، فالله كتب والعبد اكتسب، ولهذا يمدح ويذم، ولو كان الإنسان ليس له إرادة ولا مشيئة فكيف يمدح وكيف يذم وكيف يعاقب ويجازى على الإحسان إحساناً وعلى الإساءة عقوبة؟! ذلك لأن الإنسان له اكتساب في هذا من ناحية أنه مختار وعنده إرادة وعنده مشيئة، وأما كون الإنسان مجبوراً على أفعاله فهذا ليس بصحيح، فمذهب الجبرية باطل، ومذهب القدرية الذين يقولون: إن العباد يخلقون أفعالهم والله ما قدرها عليهم كذلك باطل، والحق وسط بين هؤلاء وهؤلاء، فالله تعالى قدر، وهو خالق كل شيء، وما قدره الله لابد له من أن يوجد، والعبد له إرادة ومشيئة واختيار، ولهذا يفرق بين الشيء الذي يكون من إرادة الإنسان والذي ليس من إرادة الإنسان، ولهذا يعرفون الفاعل في علم النحو فيقولون: اسم مرفوع يدل على من حصل منه الحدث أو قام به الحدث.
فالإنسان إذا قيل عنه: أكل وشرب فالأكل فعل للإنسان مضاف إليه، لكن الأكل والشرب الذي يحصل للإنسان قد قدره الله تعالى وكتبه، وما شاء الله كان، وكل شيء وقع ووجد عرفنا أنه مقدر؛ لأنه ما شاء الله كان، لكن هل يقع والإنسان مجبور عليه وليس له إرادة وليس له اختيار؟! لا، بل له إرادة وله اختيار وله مشيئة تدل على من حصل منه الحدث أو قام به الحدث، وقيام الحدث به ليس من فعله، كأن يقال: مرض فلان ومات فلان.
فالمرض ليس فعلاً له، بل هو شيء خارج عن إرادة الإنسان، وقولنا: (مات فلان) فلان فيه فاعل، وهو ما فعل الموت، ولكن قام به الموت، والله تعالى هو الذي خلقه فيه وأوجده.
ففرق بين (أكل وشرب) وبين (مرض) وفرق بين الذي يتصرف بأعضائه وبين من ترتعش يده، فالذي ترتعش يده ليس ذلك من فعله، وضربه وأكله وشربه من فعله، ففعله يستحق عليه العقوبة إذا كان سيئاً، وأما الشيء الذي ليس من فعله فلا يعاقب عليه الإنسان.
فإذا كان إنسان يضرب الناس ويؤذيهم فأتى إليه أحد ليؤاخذه على هذا فإنه إذا ضربه من أجل أن يمتنع لأنه قادر على ذلك فضربه عمل صحيح، لكن لا يؤتى إلى شخص ترتعش يده فيضرب ويقال له: أوقف حركة يدك.
لأن هذا ليس من فعل الإنسان، ولكن يوصف الإنسان بأنه مرتعش أو أن فيه وصف كذا وكذا.
فالشيء الذي ليس فيه للإنسان إرادة من مثل هذا القبيل.
فالجبرية يقولون: إن الإنسان ليس له إرادة، وإنه مثل الأشجار التي تحركها الرياح ومثل الريشة التي تطير في الهواء، فحركاته ليست باختياره.
وهذا جانب.
ويقابله جانب المعتزلة القائلين بخلق أفعال العباد، والذين يقولون: إن الله ما قدر أفعال العباد، وإن العباد هم الذين يخلقون أفعالهم.
ولهذا قيل: إنهم مجوس هذه الأمة.
والحق وسط، فالله تعالى خالق ومريد، وإذا أراد الشيء كان، والعبد مختار ومكتسب، فيمدح ويذم على ما يحصل منه من الكسب، ويثاب ويعاقب على ما يحصل منه من الكسب، ولكن لا تخرج مشيئته وإرادته عن مشيئة الله وإرادته، كما قال الله عز وجل: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29] ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله بعض أصحابه عن العمل هل هو فيما يستقبل أو في أمر قد فرغ منه أخبرهم أنه في أمر قد فرغ منه، قالوا: ففيم العمل؟! فقال: (اعملوا، فكل ميسر لما خلق له، فأهل السعادة ييسرون لعمل السعادة، وأهل الشقاوة ييسرون لعمل أهل الشقاوة).