قال ابن القيم عن هذه المسألة في كتابه زاد المعاد في الجزء الثاني الصفحة (296): فأما المسألة الأولى: فزعم كثير من الفقهاء وغيرهم أنه دخل البيت في حجته، ويرى كثير من الناس أن دخول البيت من سنن الحج اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والذي تدل عليه سنته أنه لم يدخل البيت في حجته ولا في عمرته وإنما دخله عام الفتح، ففي الصحيحين عن ابن عمر قال: (دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة على ناقة لـ أسامة حتى أناخ بفناء الكعبة، فدعا عثمان بن طلحة بالمفتاح فجاءه به، ففتح، فدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأسامة وبلال وعثمان بن طلحة فأجافوا عليهم الباب ملياً ثم فتحوه، قال عبد الله: فبادرت الناس فوجدت بلالاً على الباب فقلت: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: بين العمودين المقدمين، قال: ونسيت أن أسأله كم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟).
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما قدم مكة أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة قال: فأمر بها فأخرجت، فأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قاتلهم الله أما والله لقد علموا أنهما لم يستقسما بها قط، قال: فدخل البيت فكبر في نواحيه ولم يصل فيه) فقيل: كان ذلك دخولين صلى في أحدهما ولم يصل في الآخر، وهذه طريقة ضعفاء النقد، كلما رأوا اختلاف لفظ جعلوه قصة أخرى، كما جعلوا الإسراء مراراً لاختلاف ألفاظه، وجعلوا اشتراءه من جابر بعيره مراراً لاختلاف ألفاظه، وجعلوا طواف الوداع مرتين لاختلاف سياقه، ونظائر ذلك، وأما الجهابذة النقاد فيرغبون عن هذه الطريقة، ولا يجبنون عن تغليط من ليس معصوماً من الغلط ونسبته إلى الوهم.
قال البخاري وغيره من الأئمة: والقول قول بلال؛ لأنه مثبت شاهد صلاته بخلاف ابن عباس، والمقصود أن دخوله البيت إنما كان في غزوة الفتح لا في حجه ولا عمره، وفي صحيح البخاري عن إسماعيل بن أبي خالد قال: (قلت لـ عبد الله بن أبي أوفى: أدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عمرته البيت؟ قال: لا).
وقالت عائشة: (خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عندي وهو قرير العين طيب النفس، ثم رجع إلي وهو حزين القلب، فقلت: يا رسول الله! خرجت من عندي وأنت كذا وكذا، فقال: إني دخلت الكعبة ووددت أني لم أكن فعلت، إني أخاف أن أكون قد أتعبت أمتي من بعدي) فهذا ليس فيه أنه كان في حجته، بل إذا تأملته حق التأمل أطلعك التأمل على أنه كان في غزاة الفتح، والله أعلم.
(وسألته عائشة أن تدخل البيت فأمرها أن تصلي في الحجر ركعتين)].
الأمر واضح أنه دخل الكعبة مرة واحدة عام الفتح، وسبق أن ذكرت أن بعض أهل العلم قال: إن أسامة مثبت، وأن ابن عباس إذا كان دخل فإنه يكون قد انشغل مع النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم في نواحي البيت بالتكبير والدعاء، ثم النبي صلى الله عليه وسلم صلى ولم يره، لاسيما والباب كان مغلقاً، وليس هناك وضوح، فالمعتمد ما جاء عن بلال أنه صلى ركعتين، وما جاء عن ابن عباس إنما يدل على حسب علمه، ويمكن أن يكون كما قال بعض أهل العلم: إنه انشغل بالذكر والدعاء والتكبير والتهليل، ولم يطلع على ما اطلع عليه غيره، والمثبت مقدم على النافي، والله تعالى أعلم.