قوله: [(فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)].
أهل عليه الصلاة والسلام بالتوحيد، والتوحيد: هو إفراد الله بالعبادة، وهذه التلبية مشتملة على لا إله إلا الله، ومقتضى لا إله إلا الله أي: لا معبود بحق إلا الله؛ لأن لا إله إلا الله تشتمل على ركنين: نفي، وإثبات، نفي عام في أولها، وإثبات خاص في آخرها.
وكلمة التوحيد (لا إله إلا الله) هي المفتاح للدخول في الإسلام، وهي مفتاح الجنة؛ ولهذا أول ما بعث الله تعالى الرسول صلى الله عليه وسلم كان يمشي في مكة ويقول: (يا أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا) وأول شيء يدعى إليه هو التوحيد؛ ولهذا جاء في حديث معاذ بن جبل لما أرسله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال له: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) فأول شيء يدعى إليه هو التوحيد، الشهادة لله بالوحدانية ولنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة.
فالتلبية مشتملة على التوحيد؛ لأن (لبيك) معناها: أنك يا رب! لما دعوتني لحج بيتك استجبت لدعوتك ولبيت نداءك، فلبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك.
فالتلبية هي بمعنى لا إله إلا الله؛ لأن (لبيك اللهم لبيك) هي بمعنى (إلا الله)، و (لا شريك لك) بمعنى (لا إله)؛ ولهذا قال جابر رضي الله عنه: [(فأهل بالتوحيد)] يعني: أهل بإعلان إخلاص العبادة لله عز وجل؛ ولهذا كل عمل من الأعمال لا ينفع صاحبه عند الله إلا إذا توافر فيه أمران: الإخلاص لله وحده، والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم.
فإذا فقد الشرطان أو أحدهما، فإن العمل لاغ ومردود على صاحبه، فمن فقد الإخلاص في العمل، وإن كان العمل على طبق السنة، مادام أن فيه رياء وصُرِفَ العمل لغير الله؛ فإنه يكون مردوداً على صاحبه؛ ولهذا يقول الله عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] يعني: كل عمل يعمله الكفار من الأعمال الطيبة التي فيها خير وفيها بر ومصلحة وفائدة وإحسان مردودة عليهم ولا تنفعهم عند الله عز وجل؛ لأنها لم تبن على التوحيد، ومن شرط العمل المقبول عند الله أن يكون خالصاً لوجه الله، هذا هو الشرط الأول.
الشرط الثاني: أن يكون مطابقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذان الشرطان هما مقتضى الشهادتين، مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، ومقتضى شهادة أن محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام.
إذاً: إنما يعبد الله طبقاً لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فقد الإخلاص رد العمل وكان حابطاً، وإن وجد الإخلاص وكان مبنياً على بدعة ومبنياً على محدثات الأمور، فإنه أيضاً يكون مردوداً على صاحبه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وقال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وقال: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) فرغب في اتباع السنة، ورهب من اتباع المحدثات التي هي البدع المنكرة؛ ولهذا فإن العمل ولو كان خالصاً لله لابد أن يكون مطابقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قد يقول بعض الناس: إن الإنسان قد يأتي بعمل صالح يتقرب به إلى الله مع أنه لم يأت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن قصد الإنسان حسن، فهل يشفع له حسن قصده؟ وهل يكون عمله مقبولاً عند الله، مع أنه ليس مبنياً على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ الأمر كما قال عليه الصلاة والسلام: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: مردود عليه.
ومما يدل على أن حسن القصد لا يكفي: أن النبي عليه الصلاة والسلام لما ذبح أحد أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم أضحيته قبل صلاة العيد، يريد من وراء ذلك أن يطبخ اللحم، حتى إذا جاء الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المصلى وهم بحاجة إلى اللحم يقدم لهم لحم أضحيته، فهذا قصد حسن وقصد طيب، لكن ماذا قال رسول الله عليه الصلاة والسلام بعد أن علم أنه ذبحها قبل صلاة العيد؟ قال: (شاتك شاة لحم) يعني: ليست أضحية؛ لأنها ما وقعت طبقاً للسنة في الوقت المحدد، فهي مثل الشاة التي تذبح في محرم وصفر وربيع، حينما يذبح الناس الشياه ويأكلون لحمها، هذه من جنسها، والأضحية هي التي تكون بعد صلاة العيد إلى آخر أيام التشريق، أربعة أيام: يوم العيد، وثلاثة أيام بعده، هذا هو وقت ذبح الأضاحي، فلا تذبح قبل الصلاة، وإذا غابت الشمس من آخر أيام التشريق انتهى وقت الذبح، فهذا الصحابي رضي الله عنه كان قصده حسناً، ومع ذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (شاتك شاة لحم) يعني: ليست أضحية.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري نقلاً عن بعض أهل العلم: وفي هذا الحديث دليل على أن العمل لا يعتبر إلا إذا وقع طبقاً للسنة، وأنه لا يكفي حسن قصد الفاعل.
ومما يدل على ذلك أيضاً: أن أبا عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن أناساً يتحلقون في المسجد، ومع كل واحد منهم حصى، وفيهم واحد يقول: هللوا مائة، فيهللون مائة ويعدون بالحصى، ثم يقول: كبروا مائة، فيكبرون مائة، ثم يقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة، فوقف على رءوسهم أبو عبد الرحمن رضي الله عنه وأرضاه وقال: ما هذا يا هؤلاء؟! قالوا: حصى نسبح به، فقال رضي الله عنه وأرضاه: إما أن تكونوا على طريقة أهدى مما كان عليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أنكم مفتتحو باب ضلالة، فقالوا: سبحان الله يا أبا عبد الرحمن! ما أردنا إلا الخير، فقال رضي الله عنه: وكم من مريد للخير لم يصبه.
ولهذا يقول الله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110].
قال بعض السلف: العمل الصالح هو الذي يكون خالصاً صواباً، فالخالص ما كان لله وحده، والصواب ما كان على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم أهل بالتوحيد، والتوحيد: هو إفراد الله بالعبادة، والعبادة أنواع كثيرة: فالدعاء عبادة، والذبح عبادة، والنذر عبادة، والاستعانة عبادة، والاستغاثة عبادة، والاستعاذة عبادة، والرغبة عبادة، والرهبة عبادة، والخوف عبادة، والتوكل عبادة.
وتوحيد الله تعالى في ألوهيته: هو توحيد الله تعالى في أفعال العباد بحيث تكون خالصةً لله، فلا يجعلون مع الله شريكاً في عباداتهم التي يتقربون بها إلى الله، وإنما يجعلونها خالصةً لوجه الله عز وجل، فعلى هذا الذي فعله هؤلاء الذين أنكر عليهم عبد الله بن مسعود مردود عليهم مع حسن قصدهم، فكم من مريد للخير لم يصبه.
وبعدما أهل بالتوحيد صلى الله عليه وسلم وأعلن إخلاص العبادة لله عز وجل والناس يسمعون، وقد رفع صوته بذلك عليه الصلاة والسلام، أثنى على الله عز وجل بما هو أهله، وأنه المستحق للعبادة؛ لأنه المنعم بكل نعمة، والمحمود على كل حال، وهو مالك الملك ذو الجلال والإكرام، فقال: [(إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)] يعني: أنت المتفرد بإسداء النعم إلى كل منعَم عليه، وأنت المحمود على كل حال، وأنت مالك الملك ذو الجلال والإكرام، فلا شريك لك في الملك، ولا شريك لك في العبادة، وأنت المتفرد بالخلق والإيجاد لا شريك لك في ذلك، فكما أنه لا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله، ولا محيي إلا الله، ولا مميت إلا الله، فلا يعبد إلا الله، ولا تصرف العبادة إلا لله عز وجل، فلا تصرف لملك مقرب ولا لنبي مرسل، وهذا هو مقتضى لا إله إلا الله، فلا يصرف من أنواع العبادة شيء لغير الله عز وجل، فلا يدعى إلا الله، ولا ينذر إلا لله، ولا يتوكل إلا على الله، ولا يستغاث إلا بالله، ولا يذبح إلا لله، ولا يحلف إلا بالله، ولا ينذر إلا لله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]، {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18].
فهذه تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كان يلبي بها: [(لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)].