قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الوهاب الثقفي حدثنا حبيب -يعني: المعلم - عن عطاء حدثني جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أهل هو وأصحابه بالحج، وليس مع أحد منهم يومئذ هدي إلا النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة، وكان علي رضي الله عنه قدم من اليمن ومعه الهدي فقال: أهللت بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر أصحابه أن يجعلوها عمرة، يطوفوا ثم يقصروا ويحلوا إلا من كان معه الهدي، فقالوا: أننطلق إلى منى وذكورنا تقطر؟! فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت)].
أورد أبو داود حديث جابر رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هو وأصحابه بالحج) وهذا الحديث يدل على الإفراد، ولكن الأحاديث الكثيرة التي جاءت عن ستة عشر صحابياً فيها أنه صلى الله عليه وسلم كان قارناً، وعرفنا سابقاً أن هذا يحمل على وجوه، منها: أن بعض الصحابة سمعه يلبي بالحج، ولم يسمع التلبية بالعمرة، فظن أنه أحرم بالحج، وفسر أيضاً بأنه أهل بالحج، وأنه أتى بأعماله خاصة، من طواف وسعي، وأن العمرة جاءت تبعاً؛ لأن خروجهم كان للحج، أما وجود العمرة وعدمها فالرسول صلى الله عليه وسلم كان معه عمرة مع حجه، وغيره كان مفرداً أو محرماً بعمرة فقط، وبهذا يوفق بين الأحاديث، وتفسر على وجه يتفق مع ما جاء عن جماعة من الصحابة أنه صلى الله عليه وسلم كان قارناً ولم يكن متمتعاً ولا مفرداً.
وذكر هنا أنه كان معه الهدي، ومعلوم أن الهدي يكون مع الحاج القارن ويكون مع الحاج المفرد، وكذلك المعتمر إذا جاء ومعه هدي فإنه يدخل الحج على العمرة، فيصير قارناً لا يحل إلا يوم النحر، وقد أخبر هنا أن الهدي لم يكن إلا مع الرسول صلى الله عليه وسلم وطلحة، وهذا على حسب علمه، وجاء علي رضي الله عنه من اليمن وأهل بما أهل به رسول الله عليه الصلاة والسلام، أي: أنه أهل إهلالاً معلقاً؛ لأنه يريد أن يكون مثل الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: (أهللت بما أهل به رسول الله عليه الصلاة والسلام).
قوله: [(وإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يجعلوها عمرة يطوفوا ثم يقصروا ويحلوا إلا من كان معه الهدي)] أي: لما وصلوا إلى مكة أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الذين كانوا قارنين ومفردين وليس معهم هدي أن يطوفوا ويسعوا ويحلوا، وأما الذين معهم هدي فإنهم يبقون، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم منهم فبقى، فلما قال لهم ذلك، كأنهم تأثروا من أن يكون حالهم يخالف حال الرسول صلى الله عليه وسلم، مع أنهم جاءوا محرمين بما أحرم به الرسول صلى الله عليه وسلم من القران أو الإفراد، فالرسول صلى الله عليه وسلم أحرم بالقران، وأما هم ففيهم من كان قارناً، وفيهم من كان مفرداً، فأُمر القارنون والمفردون الذين ليس معهم هدي أن يتحولوا إلى عمرة، وقال لهم عليه الصلاة والسلام: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولولا أن معي الهدي لأحللت، ولجعلتها عمرة) وهذا يبين لنا فضل التمتع، وأنه أفضل الأنساك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تمناه، وهو لا يتمنى إلا الأفضل، ولا يرشد أصحابه إلا إلّا إلى الأفضل، ولو كان غيره أفضل منه لأرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إليه؛ لأنه أنصح الناس للناس صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
قوله: (قالوا: أننطلق إلى منى وذكورنا تقطر؟!) وهذه مبالغه، ومعنى ذلك: أننا نترفه ونستمتع بالنساء، فيأتي يوم التروية الذي نحرم فيه ونحن حديثو عهد بالاستمتاع بالنساء، فنذهب إلى منى وقد استمتعنا واغتسلنا، فهو مبالغه في أنهم يدخلون الحج وقد استمتعوا بأنواع الاستمتاع لاسيما إتيان النساء.
قوله: (وقدم علي من اليمن وقال: أهللتُ بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)، فلما جاء علم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد ساق الهدي، فأهل مثل إهلاله، ومعنى ذلك أنه سيبقى على إحرامه حتى يأتي يوم النحر.