قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (لبينا بالحج، حتى إذا كنا بسرف حضت، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقال: ما يبكيك يا عائشة؟! فقلت: حضت، ليتني لم أكن حججت، فقال: سبحان الله! إنما ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم، فقال: انسكي المناسك كلها غير ألا تطوفي بالبيت، فلما دخلنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من شاء أن يجعلها عمرة فليجعلها عمرة إلا من كان معه الهدي، قالت: وذبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن نسائه البقر يوم النحر، فلما كانت ليلة البطحاء وطهرت عائشة قالت: يا رسول الله! أترجع صواحبي بحج وعمرة وأرجع أنا بالحج؟ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن أبي بكر فذهب بها إلى التنعيم فلبت بالعمرة)].
أورد أبو داود حديث عائشة من طريق أخرى، وفيه بعض الزيادات.
قولها: (لبينا بالحج) هذا بالنسبة لبعضهم، وإلا فبعضهم لم يكن كذلك، ويمكن أن يقال: إن هذا بالنسبة لها، فقد لبت بالحج وهو يسمى عمرة، فإنه يقال للعمرة: الحج الأصغر، وقد جاء في بعض الأحاديث إطلاق الحج على العمرة، ففي حديث الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج حاجاً)، وذلك في قصة أبي قتادة والحمار الوحشي الذي صاده، فإن المقصود بهذا الحديث: خرج معتمراً، فإنه كان في ذلك الوقت معتمراً، فأطلق على العمرة أنها حج، ويمكن أن يكون قولها: [لبينا بالحج] أي: غالبنا، فيكون من باب تغليب الحج على العمرة.
قوله: (حتى إذا كنا بسرف حضت) هذا فيه بيان مكان حيضها، وأنه وقع في مكان قريب من مكة، وهو سرف.
قولها: [(فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال: ما يبكيك يا عائشة؟! قلت: حضت ليتني لم أكن حججت، فقال: سبحان الله! إنما ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم)].
هذا مثل الحديث الذي قبله، وقولها: (ليتني لم أكن حججت) أي: ليتني لم أحجج هذا العام، وهذا مثل ما تقدم في الروية السابقة، وقد قالت هذه المقالة عندما حصل لها هذا المانع، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله! هذا شيء كتبه الله على بنات آدم)، وهذا فيه تهوين لما حصل لها، من أجل التسلية لها، فقد كانت تبكي متألمة متأثرة، فقال: (هذا شيء كتبه الله) أي: أنه ليس إليك، فهو من الله عز وجل، فهو الذي كتبه على بنات آدم، وفي هذا دليل على أن الحيض يحصل لكل بنات آدم، وأنه لم يكن -كما قيل- ابتلاء بسبب نساء بني إسرائيل، فالحيض -كما جاء في هذا الحديث- مكتوب على بنات آدم.
قوله: (انسكي المناسك) أي: افعلي كل المناسك، يعني أمرها أن تدخل الحج على العمرة، وأن تفعل كل ما يفعله الحجاج إلا أنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر، وفي هذا دليل على أن الحائض والمحدث ليس لهما أن يطوفا بالبيت إلا على طهارة.
قوله: (فلما دخل مكة قال النبي صلى الله عليه وسلم: من شاء أن يجعلها عمرة فليجعلها عمرة) وجاء في بعض الروايات أنه قال: (اجعلوها عمرة إلا من كان معه الهدي فإنه يستمر على إحرامه إلى يوم النحر) سواء كان قارناً أو مفرداً، فإنه يبقى على إحرامه ولا يحل إلى يوم النحر.
قوله: (وذبح النبي صلى الله عليه وسلم عن نسائه البقر يوم النحر) في هذا دليل على أن المتمتعين لا ينحرون إلا يوم النحر، ولا ينحرون قبله؛ لأن أمهات المؤمنين كن متمتعات، ولم ينحر عنهن صلى الله عليه وسلم إلا يوم النحر، وهذا بخلاف ما جاء عن بعض أهل العلم من أن المتمتع ينحر قبل يوم النحر، فهذا غير صحيح؛ لأن أمهات المؤمنين كن متمتعات ولم ينحر عنهن إلا يوم النحر، مع أن الناس كانوا بحاجة إلى اللحم، ومع ذلك لم يحصل منهم نحر، بل إن المتمتعين كالقارنين والمفردين في عدم النحر إلا في يوم النحر.
قوله: (فلما كانت ليلة البطحاء وطهرت) أي: والحال أنها قد طهرت، (قالت: كيف يرجع صواحبي بحج وعمرة) تعني: أمهات المؤمنين يرجعن بحج مستقل وعمرة مستقلة، (وأنا أرجع بالحج؟) أي: بأعمال الحج من الطواف والسعي فقط، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (يكفيك طوافك وسعيك عن حجك وعمرتك).
وقوله: [(فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن أبي بكر فذهب بها إلى التنعيم، فلبت بالعمرة)].
تقدم شرح هذا.