شرح حديث: (أن رسول الله صلى الظهر، ثم دعا ببدنة فأشعرها من صفحة سنامها)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الإشعار.

حدثنا أبو الوليد الطيالسي وحفص بن عمر المعنى قالا: حدثنا شعبة عن قتادة، قال أبو الوليد: قال: سمعت أبا حسان عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى الظهر بذي الحليفة، ثم دعا ببدنة فأشعرها من صفحة سنامها الأيمن، ثم سلت عنها الدم، وقلدها بنعلين، ثم أتي براحلته فلما قعد عليها واستوت به على البيداء أهل بالحج)].

أورد أبو داود رحمه الله باب: في الإشعار، وهو أن يشق في سنام البدنة من الجانب الأيمن حتى يسيل الدم فيسلته؛ وذلك علامة على أنها هدي، والإشعار هو وضع علامة على البدن تدل على أنها هدي، فإذا رآها راءٍ انفلتت أو ضاعت أو فقدت عرف أنها هدي، فيسوقها إلى الحرم حتى تصل إلى منتهاها.

والإشعار سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال به جمهور أهل العلم، ولا يعرف أنه خالف في ذلك إلا أبو حنيفة رحمه الله، وقد خالفه في ذلك صاحباه أبو يوسف ومحمد، وقالا بقول الجمهور بأن الهدي يشعر، وأما أبو حنيفة فقال: إنه مثلة، وما دام أن الأحاديث قد ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه حق، ولا يقال: إنه مثلة؛ لأن المثلة هي تعذيب الحيوان بأن يقطع منه شيء، كأن تقطع أليته، أو يقطع سنامه أو غير ذلك، ويكون ذلك ميتة؛ لأن ما أبين من حي فهو ميت، وأما أن تعمل هذه الهيئة -وهي الإشعار- لتكون علامة على أنه هدي، فيعرف كل من وجده أنه هدي، فإذا ضاع أو فقد سيق إلى الحرم؛ فهذا ليس من المثلة.

ثم إن النهي عن المثلة ثابت، وهو متقدم، والإشعار إنما كان في حجة الوداع قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر.

ثم لو كان ذلك مُثلة لكان هذا مما استثني من ذلك، لكنه في الحقيقة ليس بمثلة، وهو شيء لا يحصل به ضرر كبير، فيكون من جنس الكي والوسم والختان للمولود، فهو شيء فيه مصلحة، فلا يقال: إنه تمثيل والسنة ثابتة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

[عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بذي الحليفة].

يعني في اليوم الثاني؛ لأنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر في اليوم الأول في المدينة، وخرج بعد الظهر، ثم صلى العصر في ذي الحليفة قصراً، وصلى أيضاً المغرب والعشاء والفجر والظهر من اليوم الثاني، ثم أحرم صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الظهر، فلما صلى الظهر أتي ببدنة فأشعرها من جانب سنامها الأيمن، فهذا يدل على أن الإشعار سنة، وأنه يكون في الجهة اليمنى من السنام.

وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أنه قلدها نعلين، أي: أنه جعل في رقبتها قلادة فيها نعلان، وقيل في سبب التقليد بالنعلين: إن النعلين هما مركب الإنسان، وهذا الفعل إشارة إلى أنه ترك مركوبه من الدواب، وكذلك أيضاً ترك مركوبه من النعال، فيكون قد جمع بين المركوبين، فيكون ذلك علامة على أنه هدي، هكذا ذكر ذلك بعض أهل العلم، ومنهم شيخنا الشيخ أمين الشنقيطي رحمة الله عليه في أضواء البيان.

قوله: (ثم أتي براحلته فلما قعد عليها واستوت به على البيداء أهل بالحج) أي: ركب دابته فلما استوت به على البيداء وارتفعت لبى بالحج، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما أحرم بالحج والعمرة، أي: أنه كان قارناً بينهما، وقد جاءت عدة أحاديث في ذلك، وقد ذكر ابن القيم ثمانية عشر دليلاً على أنه قرن، وجاء في بعض الأحاديث أنه تمتع، وفي بعضها أنه حج، فيكون من ذكر الحج لعله سمع الحج ولم يسمع العمرة، ومن قال: إنه تمتع فلعله أراد بذلك أن القارن متمتع من حيث إنه جمع نسكين في سفرة واحدة، فعنده شيء من التمتع في الجملة، وإن كان التمتع الذي اشتهر يراد به أن يأتي الإنسان بعمرة مستقلة في أشهر الحج ثم يحل منها، وإذا جاء اليوم الثامن أحرم بالحج، فتكون العمرة مستقلة والحج مستقلاً، فهذا الذي اشتهر باسم التمتع.

ولهذا استدل ابن كثير رحمه الله على أن القارن يجب عليه الهدي بقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196]، قال: لأن القران يقال له: تمتع؛ لأنه جمع بين نسكين في سفرة واحدة، والسنة أنه إذا ركب لبى وأهل.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015