قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب المناسك.
باب: فرض الحج.
حدثنا زهير بن حرب وعثمان بن أبي شيبة المعنى قالا: حدثنا يزيد بن هارون عن سفيان بن حسين عن الزهري عن أبي سنان عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الأقرع بن حابس سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (يا رسول الله! الحج في كل سنة أو مرة واحدة؟ قال: بل مرة واحدة، فمن زاد فهو تطوع)].
ذكر الإمام أبو داود رحمه الله بعد كتاب الصلاة، كتاب الزكاة، ثم أتى بعده بكتاب المناسك، وجعله قبل الصيام، وأخر كتاب الصيام عن كتاب المناسك وعن كتب أخرى أيضاً، وجعله بعد النكاح.
والطريقة المشهورة عند العلماء أنهم يجعلون المناسك في آخر أركان الإسلام، فيأتون بالصلاة، وقبلها مفتاح الصلاة وهو الطهارة، ثم بعد ذلك الزكاة، ثم الصيام، ثم الحج، كما جاء في حديث جبريل: (قال: أخبرني عن الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً).
ومن أهل العلم من يقدم المناسك أو الحج على الصيام، كفعل أبي داود رحمه الله، وكذلك هو صنيع البخاري، فإنه رحمه الله بدأ كتاب الإيمان بحديث ابن عمر، وفيه هذا الترتيب، حيث قال: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان)، فرتب كتب صحيحه على هذا الترتيب الذي جاء في حديث ابن عمر.
وقد ذكر المحشي أن في بعض النسخ تقديم المناسك على الصيام، وكذلك هو في مختصر المنذري، وأما الخطابي فمشى على تقديم الصوم على المناسك، كما هو الحال في ترتيب غالب كتب الحديث.
ومن أهل العلم من يترجم للحج فيقول: كتاب الحج، ومنهم من يقول: كتاب المناسك، كما فعل أبو داود.
والمناسك من حيث اللغة تطلق إطلاقاً واسعاً، وكذلك أيضاً تطلق في الشرع على عدة أمور منها: العبادة، والذبيحة أو الذبح، وتطلق أيضاً على الحج، ولعلهم سموا الحج والعمرة مناسك ويريدون من ذلك أن الحج والعمرة يشتملان على أنساك، فالحج ثلاثة أنساك: تمتع وقران وإفراد.
فالتمتع أن يأتي بالعمرة على حدة في أشهر الحج، ثم يأتي بالحج من العام، والقران أن يجمع بين الحج والعمرة في أشهر الحج، فيقرن بينهما، ويفرغ منهما جميعاً، وتكون أفعالهما واحدة، والإفراد يؤتى به وحده في أشهر الحج، والعمرة يؤتى بها مستقلة لا علاقة لها بالحج، كالعمرة التي تكون في رمضان وفي أشهر السنة كلها، فإن هذه من المناسك، فقالوا لأعمال الحج: مناسك؛ لاشتماله على هذه الأنساك الثلاثة، والعمرة تكون مع الحج في القران، وتكون منفصلة عنه في أشهر الحج قبل الحج، وهي التمتع، وقد يؤتى بها في أشهر الحج مفردة بدون أن يكون معها حج، فلا يقال لها: تمتع، كما حصل من النبي صلى الله عليه وسلم في عُمره التي فعلها في ذي القعدة، وهي ما عدا العمرة التي في حجته، فتلك العمرات كانت مستقلة ليس لها علاقة بالحج، وكذلك العُمَر في الأشهر كلها داخلة في المناسك، فمن أجل ذلك عبر بعض أهل العلم عن ذلك بالمناسك.
أورد أبو داود رحمه الله: باب فرض الحج، أي: أنه فريضة من فرائض الإسلام.
وأورد حديث ابن عباس رضي الله عنه أن الأقرع بن حابس (سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحج أفي كل عام أو مرة واحدة؟ فقال: بل مرة واحدة، وما زاد فهو تطوع) أي: أن الحج يجب مرة واحدة.
وجاء في بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب عليكم الحج فحجوا، فقال الأقرع بن حابس: أفي كل عام يا رسول الله؟! فسكت، ثم قال بعد ذلك: لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم، الحج مرة، وما زاد فهو تطوع).
وعلى هذا فالحج فريضة من فرائض الإسلام، بل هو ركن من أركان الإسلام، وقد جاء ذلك في حديث جبريل، وجاء أيضاً في حديث ابن عمر، وجاءت أحاديث كثيرة تدل على فضل الحج والأمر به، وقبل ذلك آي من القرآن كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97]، فالحج من الأمور المعلومة من دين الإسلام بالضرورة، ويجب في العمر مرة واحدة، وهذا من تيسير الله عز وجل وتخفيفه على عباده؛ لأنه لو وجب في كل عام على كل قادر لكان في ذلك مشقة على الناس، ولكان في ذلك أيضاً مشقة في كثرة الناس وازدحامهم، ولكن الله عز وجل لم يفرضه في العمر إلا مرة واحدة.
ولهذا فإن الحج هو أقل العبادات وجوداً من حيث الفرض، فالصلاة تجب في اليوم والليلة خمس مرات، والزكاة تجب في السنة مرة واحدة على من كان غنياً، والصوم يجب على كل من وجب عليه في السنة شهراً، وأما الحج فإنه لا يأتي في العمر إلا مرة واحدة على سبيل الوجوب، وما زاد على ذلك فهو تطوع.