شرح حديث المغيرة بن شعبة في المسح على الخفين

قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب المسح على الخفين.

حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب حدثني عباد بن زياد أن عروة بن المغيرة بن شعبة أخبره أنه سمع أباه المغيرة رضي الله عنه يقول: (عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه في غزوة تبوك قبل الفجر، فعدلت معه، فأناخ النبي صلى الله عليه وسلم فتبرز، ثم جاء فسكبت على يده من الإداوة، فغسل كفيه، ثم غسل وجهه، ثم حسر عن ذراعيه فضاق كمَّا جبته، فأدخل يديه فأخرجهما من تحت الجبة فغسلهما إلى المرفق ومسح برأسه، ثم توضأ على خفيه، ثم ركب، فأقبلنا نسير حتى نجد الناس في الصلاة قد قدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم حين كان وقت الصلاة، ووجدنا عبد الرحمن وقد ركع بهم ركعة من صلاة الفجر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصف مع المسلمين فصلى وراء عبد الرحمن بن عوف الركعة الثانية، ثم سلم عبد الرحمن فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته ففزع المسلمون، فأكثروا التسبيح؛ لأنهم سبقوا النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: قد أصبتم أو قد أحسنتم)].

أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة: باب المسح على الخفين، والمسح على الخفين ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء عن جماعة كثيرة من الصحابة، وهو من الأحاديث المتواترة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، والرافضة لا يقولون بالمسح كما لا يقولون بغسل الرجلين، ولهذا يذكر بعض المؤلفين في العقائد على مذهب أهل السنة والجماعة هاتين المسألتين إشارة إلى مخالفة هؤلاء المبتدعة الذين خالفوا فيهما: إحداهما ثابتة بنص القرآن، وهي غسل الرجلين، والثانية ثابتة بالسنة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي المسح على الخفين، ولهذا يقول الطحاوي رحمه الله في عقيدة أهل السنة والجماعة: ونرى غسل الرجلين ومسح الخفين في الحضر والسفر كما قد جاء في الآثار.

وهذه المسألة هي من مسائل الفروع والعبادات، وليست من مسائل العقيدة، لكن لما كانت إحدى هاتين المسألتين جاءت في القرآن والثانية جاءت في السنة المتواترة وكان من أهل البدع من يخالف ما جاء في القرآن من غسل الرجلين وما جاء في السنة المتواترة من المسح على الخفين ذكروا ذلك لمجانبة أهل البدع، وللإشارة إلى مفارقتهم لأهل البدع الذين خالفوا نص القرآن وخالفوا السنة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لذا أدخلوها في باب العقائد مع أنها من المسائل الفقهية، ومن مسائل الفروع، وليست من مسائل العقيدة، لكن من حيث التصديق والامتثال، وأن ما جاء في القرآن حق يمكن أن تكون مما يعتقد؛ لأن كل ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم من أخبار يجب أن تصدق، لكن من حيث الذي اشتهر عند العلماء في ذكر مباحث العقيدة أنهم يذكرون ما يتعلق بالإيمان والأمور التي تعتقد، ولم يكن ذكر المسائل الفقهية يأتي في العقائد إلا من أجل أنه اشتهر عن بعض المبتدعة، وقد جاء به القرآن والسنة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأورد أبو داود رحمه الله حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وأنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، وكان معه أصحابه رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم قال: (فعدل الرسول)، يعني: عن الطريق، فبدل ما كان يمشي في الطريق والناس يمشون فيها عدل إلى ناحية من أجل أن يقضي حاجته، وهذا يفيد أن الطرق لا تقضى فيها الحاجة، كما سبق في الحديث النهي عن قضاء الحاجة في طريق الناس وظلهم، فالرسول عدل عن الطريق الذي يمشي فيه الناس وذهب إلى مكان غير الطريق المسلوك، فقضى حاجته.

قوله: [(فعدلت معه فأناخ النبي صلى الله عليه وسلم فتبرز)].

(فعدلت معه)، يعني: تبعته (فأناخ النبي صلى الله عليه وسلم فتبرز)، يعني: قضى حاجته.

قوله: (ثم جاء فسكبت على يده من الإداوة)].

يعني: ثم جاء من مكان قضاء حاجته، فسكب على يده من الإداوة، وهذا فيه معاونة الشخص ومساعدته في الوضوء، وأن للإنسان أن يوضئ غيره، يعني: أن يصب على غيره، وغيره يتوضأ، وليس بلازم أن الإنسان هو الذي يفرغ، بل له أن يفرغ ولغيره أن يفرغ عليه، وكل ذلك جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في الأحاديث الكثيرة التي سبق أن مرت في صفة وضوء الرسول أنه أفرغ على يديه، وهنا أفرغ عليه المغيرة بن شعبة فهذا فيه دليل على أن مثل ذلك سائغ، وأن لغيره أن يوضئه وأن يصب عليه الماء وهو يتوضأ.

قوله: [(فغسل كفيه ثم غسل وجهه)].

يعني: غسل كفيه الغسل الذي يكون قبل الوضوء، وهذا كما هو معلوم غسل بدون إدخال يد في الإناء، فالرسول غسل يديه وغيره يصب عليه، فلا يدخل الإنسان يده في الإناء مباشرة، وقد جرى سؤال عن الصنابير هل يغسل الإنسان يديه عندما يتوضأ بها، وقلنا: إن له أن يغسل يديه منها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم صب عليه المغيرة وغسل يديه، وهذا مثل صب الصنابير، لأنه ليس فيه إدخال اليد في الإناء، فلا تدخل اليد في الإناء؛ لأن المقصود هو النظافة، واليد قد تكون غير نظيفة، وإذا استعملها الإنسان وهي غير نظيفة فقد يذهب بالذي فيها إلى وجهه إذا بدأ به دون أن يغسلها، أو إلى فمه للمضمضة، فكونه يغسلها سواء كان سيدخلها في الإناء أو لا يدخلها في الإناء أمر مطلوب، فيصب عليها من صنبور الماء أو يفرغ عليه أحد فيغسل يديه قبل أن يبدأ بأعضاء الوضوء، وهذا كما هو معلوم على سبيل الاستحباب، ولا يجب ذلك إلا إذا علم أن في اليد نجاسة أو كان القيام من نوم الليل كما سبق ذكر ذلك.

قوله: [(ثم حسر عن ذراعيه فضاق كمَّا جبته)].

أي: أنه أراد أن يخرج الذراعين من الكم فضاق، فرجع وأدخلهما حتى خرج من الجبة وجعلها على كتفيه، وظهر الذراعان من تحت الجبة، وغسلهما إلى المرفقين.

قوله: [(ومسح برأسه ثم توضأ على خفيه)].

أي: مسح على خفيه، وهذا محل الشاهد للترجمة وهو المسح على الخفين.

قوله: [(ثم ركب فأقبلنا نسير حتى نجد الناس في الصلاة قد قدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم حين كان وقت الصلاة)].

أي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه المغيرة بن شعبة ركبوا فأدركوا الناس وقد بدأوا بالصلاة وقدموا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ليصلي للناس، فجاءوا وقد صلى عبد الرحمن بن عوف ركعة فصلوا، فصلى الرسول صلى الله عليه وسلم والمغيرة بن شعبة وهم مسبوقون في الصلاة، ولما فرغوا من الصلاة ورأى الناس رسول الله يصلي ما بقي من صلاته فزعوا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جاء ولم يصل بهم، وأنه كان مسبوقاً، ففزعوا وقالوا: سبحان الله! تعجبوا لكونهم سبقوا الرسول ولكون الرسول صلى وراء إمامهم.

قوله: [فأكثروا التسبيح؛ لأنهم سبقوا النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: (قد أصبتم أو قد أحسنتم)].

يعني: فيما فعلتم، وفي هذا دليل على أن الصلاة تصلى في أول وقتها، وأنه إذا تأخر الإمام عن أول الوقت شيئاً من التأخير واحتاجوا إلى أن يصلوا لأنهم خشوا ألا يلحق أو أنه لا يأتيهم أو أنه مشغول أو ما إلى ذلك فإن لهم أن يقدموا واحداً منهم؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم قدموا عبد الرحمن بن عوف، فصلى بهم الصبح، والنبي صلى الله عليه وسلم أدرك معه ركعة، فقام وقضى الركعة الباقية، وهذا هو الذي عرف في الإسلام أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى وراء إمام من رعيته، وهذا فيه دليل على جواز صلاة الرسول وراء أحد رعيته؛ لأنه صلى عليه الصلاة والسلام وراء عبد الرحمن بن عوف ووراء أبي بكر رضي الله عنه، كما ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم ذهب ليصلح بين بني عمرو بن عوف فتأخر، فجاء بلال إلى أبي بكر يستأذنه في الإقامة، فأقام الصلاة وقام أبو بكر ودخل في الصلاة، ولكنه لما دخل كان في أول الصلاة، فالرسول صلى الله عليه وسلم جاء فسبح الصحابة؛ فالتفت أبو بكر -وكان لا يلتفت في صلاته- فرأى الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فأراد أن يتأخر، فأشار إليه مكانك، فتأخر وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى بالناس، ولما فرغ من صلاته قال: (ما منعك أن تصلي؟ قال: ما كان لـ ابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم)، لأن هذا كان في أول الصلاة، وأما عبد الرحمن بن عوف فكان قد مضى إلى نصف الصلاة، وهي صلاة الفجر، وقد جاء في بعض الروايات أنه علم وأن الرسول أشار إليه أن يمكث، والفرق بين حالته وحالة أبي بكر: أن أبا بكر كان في أول الصلاة، فالرسول يصلي بالناس ويسلم بهم، لكن عبد الرحمن سبق أن مضى نصف الصلاة فواصل الصلاة واستمر فيها كما سيأتي في الحديث أن الرسول أشار إليه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015