قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب تفريع أبواب الوتر.
باب استحباب الوتر.
حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا عيسى عن زكريا عن أبي إسحاق عن عاصم عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أهل القرآن! أوتروا، فإن الله وتر يحب الوتر).
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو حفص الأبار عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه، زاد: (فقال أعرابي: ما تقول؟ فقال: ليس لك ولا لأصحابك)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [تفريع أبواب الوتر].
والوتر قيل: هو الركعة التي تختم بها صلاة الليل، أو الركعات التي هي وتر تختم بها صلاة الليل، وقيل: إن المقصود بذلك صلاة الليل وما يختم به من ركعة أو أكثر، فإن ذلك كله يقال له وتر.
والوتر: هو ضد الشفع، أي: الفرد، ومعنى هذا: أن الإنسان يصلي الوتر ركعة واحدة، وهي أقل شيء، ويمكن أن يكون ثلاثاً سواء كانت مسرودة أو ركعتين، ثم يتشهد ويسلم، ثم يأتي بركعة ويتشهد ويسلم، وهذا هو الأولى، أو يأتي بأكثر من ذلك متصلاً أو منفصلاً يعني: ثنتين ثنتين، وركعة في الآخر، أو تكون مجتمعة ويسلم في آخرها، فكل هذا يقال له وتر.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (يا أهل القرآن! أوتروا، فإن الله وتر يحب الوتر)، وقد ذكر أبو داود رحمه الله هذا الحديث تحت ترجمة: [باب استحباب الوتر]؛ لأنه لما ذكر تفريع أبواب الوتر بدأ بترجمة استحباب الوتر.
والمقصود من الترجمة هو: أن الوتر ليس بفرض ولا حتم، ولكنه مستحب، بل هو من آكد السنن والنوافل؛ لأن النوافل آكدها الوتر وركعتا الفجر، وقد كان عليه الصلاة والسلام لا يترك الوتر ولا ركعتي الفجر لا في حضر ولا في سفر، وثبت عنه أنه ما كان يحافظ على شيء من النوافل في الحضر والسفر إلا على ركعتي الفجر والوتر، فهو من آكد النوافل وأهمها، ولكنه ليس بفرض وإنما مستحب، ولهذا قال في الترجمة: [باب استحباب الوتر].
ويأتي المصنف بعدة أحاديث يستدل بها على هذا، ومنها هذا الحديث، وهو قوله: (يا أهل القرآن! أوتروا؛ فإن الله وتر يحب الوتر) ووجه إيراد المصنف لهذا الحديث تحت هذه الترجمة من جهة أنه خص أهل القرآن بقوله: (يا أهل القرآن! أوتروا، فإن الله وتر يحب الوتر) فكونه يخاطب أهل القرآن بهذا فهو يدل على أنه ليس بفرض؛ لأنه لو كان فرضاً لكان لازماً للجميع.
والأدلة الواضحة على استحبابه ستأتي، ومنها: الأحاديث التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خمس صلوات فرضهن الله)، وكذلك حديث معاذ لما بعثه إلى اليمن، قال: (أخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة)، وكان هذا متأخراً، فهذا يدل على أن المفترض هو الخمس الصلوات، وما زاد عليها فهو نفل، وكذلك حديث طلحة أنه جاء رجل إلى رسول الله وسأله فقال: (خمس صلوات فرضهن الله في كل يوم وليلة؟ قال: هل عليّ غيرها؟ قال لا، إلا أن تطوع)، فهذا يدل على أن الوتر داخل تحت التطوع.
إذاً: فهو من الأعمال المستحبة، ولكنه من آكد المستحبات والنوافل.
والوتر مستحب في حق الجميع، يعني: في أهل القرآن وغير أهل القرآن، فالمسلم يوتر ويصلي الوتر، لكن لماذا خص أهل القرآن؟ لأن أهل القرآن يصلون الليل، ويقرءون القرآن في صلواتهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم أرشدهم إلى أن يختموا، وأن صلاتهم في الليل بوتر، فلذلك قال: (يا أهل القرآن! أوتروا؛ فإن الله وتر يحب الوتر)، لكن لا يعني هذا أن غير أهل القرآن لا يوترون؛ فإن الوتر مستحب في حق كل أحد، وهو من النوافل المؤكدة والمستحبة.
ثم قال: (فإن الله وتر يحب الوتر) ومعنى وتر أي: فرد واحد ليس معه أحد، فهو واحد في ذاته وأسمائه وصفاته، وواحد في ألوهيته وربوبيته، فهو وتر وهو أحد، والله تعالى يحب الوتر، ولهذا جاء في السنة والشريعة الإيتار في أمور كثيرة، بمعنى: أنه يأتي بها عدداً فردياً.
جاء ذلك في مواضيع وأحاديث كثيرة فيها التنبيه على الإتيان بالشيء وتراً سواء كان فيما يتعلق بأكل تمرات وتراً قبل الذهاب لعيد الفطر، أو كان في الاستنجاء، فالإنسان يستنجي وتراً ولا يأتي بالأحجار شفعاً، أو الطواف فإنه وتر، وكذلك الوضوء يكون واحدة واثنتين وثلاث، فيختم الوضوء بوتر ولا يتجاوزه بمعنى: أنه لا يغسل الرابعة، فالوتر جاء ذكره في أمور كثيرة وعديدة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله وتر يحب الوتر).
وهذا الحديث يدل على أن الوتر من أسماء الله عز وجل، وأنه يحب مقتضى هذا الاسم الذي هو الوتر، وفيه إثبات المحبة لله عز وجل، وهي على وجه يليق بكماله وجلاله كسائر الصفات؛ لأن الصفات كلها طريقتها واحدة، تثبت على وجه يليق بجلاله وكماله دون أن يكون فيها تشبيه، ودون أن يكون فيها تعطيل، بل إثبات مع التنزيه، والإثبات ينافي التعطيل، والتنزيه ينافي التمثيل والتشبيه، على حد قول الله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] فأثبت السمع والبصر، ونفى المشابهة، فالصفات كلها على هذا النحو وعلى هذه الطريقة.
ثم ذكر حديث ابن مسعود وهو بمعناه: (قال أعرابي: ما تقول؟ قال: ليس لك وأصحابك)، يعني: ليست لك وأمثالك من الأعراب؛ لأن هذا خطاب لأهل القرآن الذين يقرءون القرآن في الليل وأمروا بالإيتار، لكن كما هو معلوم صلاة الوتر مطلوبة في حق كل أحد، ولكن قوله: (ليست لك ولأصحابك) يعني: لا يراد به أن غير أهل القرآن لا يحصل منهم الوتر، بل الوتر مطلوب في حق كل أحد، ولهذا أبو هريرة قال: (أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: ركعتي الضحى، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وأن أوتر قبل أن أنام)، وكذلك أبو الدرداء في صحيح مسلم يقول: (أوصاني حبيبي صلى الله عليه وسلم بثلاث: ركعتي الضحى، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وأن أوتر قبل أن أرقد)، فالوتر ليس خاصاً بأحد دون أحد، مثل ركعتي الفجر، وركعات الظهر والمغرب والعشاء، فهذه رواتب ونوافل مستحبة ومطلوبة في حق كل أحد، ولكن قوله: (ليست لك ولأصحابك) المقصود بذلك: كونه ليس من أهل القرآن الذين يشتغلون بصلاة الليل وقراءة القرآن، وأقل شيء ركعة يصليها الإنسان بعد أن يؤدي سنة العشاء ركعتين، والوتر مطلوب من كل أحد سواء بركعة أو بثلاث أو بخمس أو بسبع أو بتسع أو بإحدى عشرة أو بثلاث عشرة، كل ذلك سائغ، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما كان يصلي بأقل من سبع، وما كان يصلي بأكثر من ثلاث عشرة، وأكثر ما كان يفعل إحدى عشرة ركعة صلى الله عليه وسلم.