قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حفص بن عمر حدثنا همام حدثنا قتادة عن زرارة بن أوفى عن سعد بن هشام قال: (طلقت امرأتي، فأتيت المدينة لأبيع عقاراً كان لي بها، فأشتري به السلاح وأغزو، فلقيت نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: قد أراد نفر منا ستة أن يفعلوا ذلك فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، فأتيت ابن عباس رضي الله عنهما فسألته عن وتر النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أدلك على أعلم الناس بوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأت عائشة رضي الله عنها، فأتيتها، فاستتبعت حكيم بن أفلح فأبى، فناشدته فانطلق معي، فاستأذنا على عائشة رضي الله عنها، فقالت: من هذا؟ قال: حكيم بن أفلح، قالت: ومن معك؟ قال: سعد بن هشام، قالت: هشام بن عامر الذي قتل يوم أحد؟ قال: قلت: نعم، قالت: نعم المرء كان عامر، قال: قلت: يا أم المؤمنين! حدثيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: ألست تقرأ القرآن؟ فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن، قال: قلت: حدثيني عن قيام الليل؟ قالت: ألست تقرأ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1]؟ قال: قلت: بلى، قالت: فإن أول هذه السورة نزلت، فقام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتفخت أقدامهم، وحبس خاتمتها في السماء اثني عشر شهراً، ثم نزل آخرها فصار قيام الليل تطوعاً بعد فريضة.
قال: قلت: حدثيني عن وتر النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان يوتر بثمان ركعات لا يجلس إلا في الثامنة، ثم يقوم فيصلي ركعة أخرى لا يجلس إلا في الثامنة والتاسعة، ولا يسلم إلا في التاسعة، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني! فلما أسن وأخذ اللحم أوتر بسبع ركعات لم يجلس إلا في السادسة والسابعة، ولم يسلم إلا في السابعة، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، فتلك هي تسع ركعات يا بني! ولم يقم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة يتمها إلى الصباح، ولم يقرأ القرآن في ليلة قط، ولم يصم شهراً يتمه غير رمضان، وكان إذا صلى صلاة داوم عليها، وكان إذا غلبته عيناه من الليل بنوم صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة، قال: فأتيت ابن عباس فحدثته فقال: هذا والله هو الحديث، ولو كنت أكلمها لأتيتها حتى أشافهها به مشافهة قال: قلت لو علمت أنك لا تكلمها ما حدثتك)].
أخرج أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها هذا الطويل الذي مشتمل على ما يتعلق بصلاة الليل وعلى الوتر وعلى مسائل عديدة اشتمل عليها هذا الحديث.
والحديث فيه أن سعد بن هشام طلق زوجته، يعني: يريد أن يتفرغ للجهاد، ويتخلى عن زوجته؛ ليكون ما عنده إلا الجهاد، فقدم المدينة ليبيع عقاراً له ويستفيد من ذلك العقار في جهاده، فلقي نفراً من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا له: لا تفعل، فإن نفراً منا أرادوا ما أردت وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، فهو عليه الصلاة والسلام مبق على أهله، ويصلي وينام، ويصوم ويفطر، ويتزوج النساء، ولا يتخلى عن ذلك من أجل التفرغ للعبادة والجهاد في سبيل الله، وإنما يمكن أن يجمع بين هذا وهذا، فلما أخبروه بذلك أراد أن يسأل عن مسائل من العلم وعن شيء من أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء إلى ابن عباس ليسأله عن وتر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هل أدلك على من هو أعلم بذلك؟ اذهب إلى عائشة، فذهب إلى حكيم بن أفلح وطلب منه أن يصحبه، فأبى، فألح عليه فمشى معه إلى عائشة، ولما استأذنوا أخبر حكيم عن نفسه، قالت: ومن معك؟ قال: سعد بن هشام، قالت: هشام بن عامر؟ قال: نعم، ثم إنه سألها عدة أسئلة أولها.
قوله: [(قال: قلت يا أم المؤمنين! حدثيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أما تقرأ القرآن؟ كان خلقه القرآن)].
يعني: أن كل ما في القرآن من أخلاق وآداب وأعمال هو خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يمتثل بكل ما جاء في القرآن، وكل ما جاء في كتاب الله عز وجل يطبقه وينفذه، فهذا هو خلق رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولهذا بينت عائشة في هذا الحديث أن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن، يتخلق بأخلاقه، ويتأدب بآدابه، ويعمل بما فيه، فيمتثل كل ما أمر به، وينتهي عن كل ما نهي عنه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
فهذا خلقه الذي أثنى الله عز وجل عليه فيه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، فهذا الخلق العظيم الذي تخلق به الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرت عائشة بأنه تطبيقه للقرآن وتنفيذه له، وتأدبه بآداب القرآن، وعمله بما جاء في القرآن.
قوله: [(قال: قلت: حدثيني عن قيام الليل؟ قالت: ألست تقرأ {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1]؟ قال: بلى، قالت: فإن أول هذه السورة نزلت، فقام أصحاب رسول الله حتى انتفخت أقدامهم، وحبس خاتمتها في السماء اثني عشر شهراً، ثم نزل آخرها فصار قيام الليل تطوعاً بعد فريضة)].
وقوله: (حبس آخرها في السماء) يعني: أنها لم تنزل من الله عز وجل إلا بعد سنة، والمقصود بالسماء: العلو، يعني: ما جاءت من الله من السماء إلا بعد مضي سنة، والله عز وجل في السماء كما قال: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]، يعني: في العلو فوق المخلوقات، وكلما علا فهو سماء، ولا يكون السماء مقيداً بالسماوات المبنية، بل ما بعد السماوات المبنية، وما بعد العرش، وما فوق العرش كله يقال له: سماء، وليس فوق العرش إلا الله سبحانه وتعالى، والله تعالى في السماء فوق العرش، ولا يكون في داخل السماوات؛ لأن الله أجل وأعظم وأكبر من أن يحيط به شيء من مخلوقاته، ولكنه فوق عرشه في السماء يعني: في العلو.
ولهذا الجارية التي سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أين الله؟ قالت: في السماء)، يعني: في العلو، الله سبحانه وتعالى في العلو فوق العرش.
قوله: [(قال: قلت: حدثيني عن وتر النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كانت يوتر بثمان ركعات لا يجلس إلا في الثامنة، ثم يقوم فيصلي ركعة أخرى، لا يجلس إلا في الثامنة والتاسعة، ولا يسلم إلا في التاسعة، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني! فلما أسن وأخذ اللحم أوتر بسبع ركعات لم يجلس إلا في السادسة والسابعة، ولم يسلم إلا في السابعة، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، فتلك تسع ركعات يا بني!)].
ثم سألها -أي: سعد بن هشام - عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته بشيء من بعض أحواله عليه الصلاة والسلام؛ لأن أحواله عديدة، وقد أخبرت في أحاديث عديدة بإحدى عشر وبثلاث عشرة وبتسع، فأخبرته هنا بأنه كان يصلي ثمانية لا يجلس إلا في آخرها، وإذا جلس في آخرها لا يسلم، ولكنه يقوم للتاسعة، ثم يجلس بعدها ويتشهد ثم يسلم، يعني: يصلي ثمان ركعات، ولا يسلم إلا بعد التاسعة، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، فتكون بذلك كملت الإحدى عشر، ولما أسن وتقدمت به السن وكبر صلى الله عليه وسلم كان يصلي سبعاً وستاً، وستة، يعني: يصلي ستاً يجلس بعد السادسة، ثم يقوم للسابعة، ويجلس بعدها ويسلم.
وهذا هو أقل ما حفظ عنه صلى الله عليه وسلم الذي هو سبع، وكان ذلك في آخر أمره كما أشارت إلى ذلك عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها بهذا الحديث.
قوله: [(ولم يقم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة يتمها إلى الصباح)].
يعني: معناه يصلي الليل كله ما فعل ذلك ولا ليلة واحدة، كونه يصلي الليل من أوله إلى آخره ما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل جاء عنه لما ذكر له الذين أرادوا أن يتعبدوا، وأن يعتزلوا النساء، وأن يصوموا ولا يفطروا وكذا، قال: (أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له، أما أني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
فهو لم يصل ليلة حتى الصباح، يعني: ما صلى الليل كله من أوله إلى آخره، ولا قرأ القرآن.
قوله: [(ولم يقرأ القرآن في ليلة قط)].
يعني: ما واصل القراءة في الليل حتى يتم القرآن سواء كان ذلك في صلاة أو في غير صلاة، ما حصل أنه أتم القرآن في ليلة قط.
قوله: [(ولم يصم شهراً يتمه غير رمضان)] ولم يصم شهراً يتمه غير رمضان، ولكن أكثر ما كان يصوم في شعبان، ولكنه لم يصم شهراً كاملاً إلا رمضان صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
قوله: [(وكان إذا صلى صلاة داوم عليه)].
ومن ذلك ركعتا الظهر اللتان قضاهما بعد العصر، ثم داوم عليهما، وهذا من شواهد هذا الكلام الذي قالته عائشة، يعني: تلك الصلاة التي كان يصلي وداوم عليها صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(وكان إذا غلبته عيناه من الليل بنوم صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة)].
وكان إذا غلبته عيناه في نوم من الليل أو حصل له مرض كما جاء في بعض الأحاديث صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة؛ لأن الضحى يصلي ثنتي عشرة ركعة، يعني: الإحدى عشر ويضيف إليها ركعة حتى تكون شفعاً، ولا تكون وتراً في النهار، مقدار الذي يصلى يؤتى به، ولكنه يؤتى به مع إضافة ركعة يشفع بها العدد الذي هو إحدى عشر؛ لأن الوتر لا يكون في النهار وإنما يكون في الليل، ولكنه يمكن أن يقضى ويتدارك، وأن الإنسان يحافظ عليه، وإذا فاته يقضيه، ولكنه إذا قضاه لا يقضيه على هيئته