قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب تفريع أبواب التطوع وركعات السنة.
حدثنا محمد بن عيسى حدثنا ابن علية حدثنا داود بن أبي هند حدثني النعمان بن سالم عن عمرو بن أوس عن عنبسة بن أبي سفيان عن أم حبيبة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى في يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعاً بني له بهن بيت في الجنة)].
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا هشيم أخبرنا خالد، ح وحدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا خالد -المعنى- عن عبد الله بن شقيق قال: (سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من التطوع، فقالت: كان يصلي قبل الظهر أربعاً في بيتي، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يرجع إلى بيتي فيصلي ركعتين، وكان يصلي بالناس المغرب، ثم يرجع إلى بيتي فيصلي ركعتين، وكان يصلي بهم العشاء، ثم يدخل بيتي فيصلي ركعتين، وكان يصلي من الليل تسع ركعات فيهن الوتر، وكان يصلي ليلاً طويلاً قائماًَ، وليلاًَ طويلاً جالساً، فإذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ وهو قاعد ركع وسجد وهو قاعد، وكان إذا طلع الفجر صلى ركعتين، ثم يخرج فيصلي بالناس صلاة الفجر صلى الله عليه وعلى آله وسلم).
حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يصلي قبل الظهر ركعتين، وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين في بيته، وبعد صلاة العشاء ركعتين، وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب تفريع أبواب التطوع وركعات السنة].
التطوع: هو النفل، وهو غير الفرائض، وقوله: [وركعات السنة] لعله يريد بذلك الركعات التي تكون تابعة للصلوات، والسنة لعله يريد بها السنة في اصطلاح الفقهاء، وهي التطوع أو الركعات المستحبة التي هي رواتب تابعة للصلوات.
والسنة تأتي على أربعة معانٍ: الأول: كل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن والسنة، فكله سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، أي: منهجه وطريقته، فما في القرآن وما في السنة كله سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وهدي الرسول الذي جاء به صلى الله عليه وسلم؛ لأن القرآن من الله والسنة من الله، إلا أن السنة وحي غير متلو.
ومر معنا حديث ابن عباس: (فرض الله على لسان نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم الصلاة في السفر ركعتين، وفي الحضر أربعاً، وفي الخوف ركعة).
فقوله: (فرض الله على لسان نبيكم) يعني أن الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو من الله، فالسنة من الله، والقرآن من الله، والكل سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (فمن رغب عن سنتي فليس مني)، فالمقصود بسنة صلى الله عليه وسلم طريقته التي هي اتباع الكتاب والسنة، وهدي الكتاب والسنة، وهذا هو أعم المعاني التي يأتي بها لفظ السنة.
المعنى الثاني: فحديث الرسول صلى الله عليه وسلم يقال له: سنة، ومن ذلك ما يذكره العلماء في شروح الحديث، وفي كتب الفقه، فعندما يأتون إلى مسألة من المسائل فإنهم يقولون: هذه المسألة دل عليها الكتاب والسنة والإجماع والقياس أو المعنى، ثم يقولون: أما الكتاب فقول الله تعالى كذا، وأما السنة فقول الرسول صلى الله عليه وسلم كذا، وأما الإجماع فقد حكاه أهل الإجماع، وأما المعنى فكذا وكذا.
فإذا ذكرت السنة مع القرآن أو مع الكتاب فالمراد بها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، والسنة بهذا المعنى تكون مرادفة للحديث، فالحديث والسنة هما بمعنى واحد، وهو كلام الرسول صلى الله عليه وسلم.
المعنى الثالث: مقابل البدعة، فإذا قالوا: هذا سنة وهذا بدعة فمعناه أن هذا جاء وفقاً للسنة، ذاك جاء بدعة خلافاً للسنة.
ومن ذلك الكتب التي يؤلفها العلماء في عقيدة أهل السنة والجماعة باسم السنة، مثل: كتاب السنة لـ ابن أبي عاصم، والسنة لـ محمد بن نصر المروزي، والسنة لـ عبد الله بن الإمام أحمد، والسنة للالكائي، والمراد منها ما يعتقد طبقاً للسنة وخلافاً للبدعة.
والإمام أبو داود رحمه الله قد وضع في كتابه السنن اسم: (كتاب السنة)، وأورد فيه ما يقرب من مائة وخمسين حديثاً كلها في العقيدة، يعني: ما يعتقد وفقاً للسنة وخلافاً للبدعة.
المعنى الرابع: هو السنة باصطلاح الفقهاء، وهو المأمور به لا على سبيل الإيجاب، وإنما على سبيل الاستحباب، أي: ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، ويطلبه الشارع طلباً غير جازم، بخلاف الواجب، فإنه يثاب فاعله ويعاقب تاركه ويطلبه الشارع طلباً جازماً.
وعلى هذا فالسنة يراد بها المندوب والمستحب، فيقال: المسنون.
وإذا جاء في كتب الفقهاء (يسن) أو (المسنون) أو (سنة) أو (مندوب) أو (مستحب) فذلك كله بمعنى واحد.
وقوله هنا: [(وركعات السنة)] لعله يريد بذلك الركعات التي هي مستحبة، والتي هي من قبيل السنن التي ليست بواجبة، ولكن على الإنسان أن يحرص عليها.
وقد سبق أن مر الحديث الذي فيه: (إن أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من عمله الصلاة) وفيه أنها إذا نقصت يقول الله تعالى: هل لعبدي من تطوع، فيكمل به صلاة الفرائض.
والتطوعات والسنن على الإنسان أن يحرص عليها؛ لأنها كالسياج للفرائض، والذي يتهاون بالسنن يتهاون بالفرائض، فمن سهل عليه التهاون بالسنن يسهل عليه التهاون بالفرائض، ومن حافظ على السنن فمن باب أولى أن يحافظ على الفرائض، والله تعالى يقول في الحديث القدسي: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) الحديث.
ثم أورد أبو داود رحمه الله ثلاثة أحاديث: الأول عن أم حبيبة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، وفيه: أن من حافظ على ثنتي عشر ركعة في كل يوم -أي: في اليوم والليلة- بني له بيت في الجنة.
والثاني حديث عائشة رضي الله عنها، وفيه بيان تفصيل تلك الركعات، وأنها أربع قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر.
فالتفصيل لهذه السنن الرواتب الثنتي عشرة موجود في حديث عائشة: أربع قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر.
والثالث حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وفيه المحافظة على عشر ركعات: ركعتان قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر.
وحديث أم حبيبة وحديث عائشة متفقان من ناحية العدد، وأن الراتبة تكون أربعاً قبل الظهر، بخلاف حديث ابن عمر، فإن فيه اثنتين قبل الظهر، ولا شك في أن الإتيان بالأكمل والأفضل الذي هو أربع هو الأولى، ومن أتى بالاثنتين فحسن ولا بأس بذلك.
ومن الأمور التي أذكرها عن سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه -وكنت ذكرت هذا في المحاضرة التي ألقيتها عقب وفاته بخمسة أيام- أنني دخلت معه إلى المسجد النبوي، وبعد أن أذن للظهر وصففت بجواره صلى هو أربعاً، وأنا صليت ركعتين وجلست، وبعدما سلم التفت إلي وقال: أنت صليت ركعتين؟ قلت: نعم صليت ركعتين، قال: الأربع أحسن وأفضل؛ لأنها جاءت في حديث عائشة وأم حبيبة، وفي الزيادة خير.
يعني: فهي أولى وأفضل.
وهذا من نبله وفضله ونصحه رحمة الله عليه، فإنه ينبه على أمور فيها الكمال، وإن كان الإتيان بذلك موافقاً للسنة، إلا أن الذي جاءت به السنة هو أكمل وأفضل، وهو الأولى، فنبهني على ذلك رحمة الله عليه.
والحاصل أن الأفضل الإتيان بالأكمل، والذي جاء في حديث أم حبيبة وحديث عائشة لا شك هي أنه أكمل وأفضل، ومن أتى بركعتين فقد وافق السنة، ومعلوم أن الأصغر يدخل في الأكبر، إذا أتي بالأكبر فقد أتي بالأصغر، ولكن من أتى بالأصغر فقد ترك بالأكبر، بل من أتى بالأكبر هو الذي يحصل على الفضل والزيادة في الخير؛ لأن (أربع الركعات لا شك في أن الإتيان بها أفضل من الإتيان بركعتين.
وعلى هذا فإن هذه الأحاديث الثلاثة دلت على هذه الرواتب، وحديث أم حبيبة وعائشة متفقان على ذكر العدد، وهو الثنتي عشرة ركعة، وحديث أم حبيبة غير مفصل، وحديث عائشة مفصل، وفيه -أيضاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الرواتب كلها في بيته.
وفي حديث ابن عمر قال: [(وبعد المغرب ركعتين في بيته)].
وهذا يفيد أن ذلك في بيته، ولكن عائشة رضي الله عنها بينت أن تلك الرواتب كانت في البيت، فيكون هذا الذي جاء في حديث ابن عمر مثلما جاء في حديث عائشة، إلا أن ابن عمر نص على ذلك فيما يتعلق بالمغرب.
وعائشة -كما هو معلوم- هي أدرى وأعلم؛ لأنها تخبر أنه كان يصلي في بيته أربعاً، ثم يخرج، ثم يرجع ويصلي ركعتين، وكل راتبة من الرواتب كان يأتي بها صلوات الله وسلامه وبركاته عليه في بيته كما جاء ذلك مبيناً عنها.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (صلاة الرجل في بيته أفضل إلا المكتوبة)، فدل على فضل ذلك بقوله وفعله، حيث كان يصلي في بيته النوافل الرواتب، وأخبر في هذا الحديث بأفضليتها.