هذه الكيفيات لصلاة الخوف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوضح الأدلة الدالة على أن صلاة الجماعة واجبة؛ لأنها لو سقطت لسقطت في هذه الحالات في شدة الخوف، فلما حافظ عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحافظ عليها المسلمون مع رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ دل ذلك على أن صلاة الجماعة واجبة، وأنه لا يسوغ للإنسان أن يتهاون بها، وأن يتساهل بها، بل هذا من أوضح الأدلة الدالة على ذلك، فكون الناس في خوف شديد ومع ذلك يصلون جماعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقسم أصحابه قسمين: قسم يصلون معه، وقسم في جهة العدو، ولو كانت صلاة الجماعة ليست واجبة لما حصل شيء من ذلك، ولما احتيج إلى شيء من ذلك، وقد جاءت الأحاديث الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوب صلاة الجماعة، ومنها حديث الرجل الأعمى الذي جاء إليه وقال: إني شاسع الدار، وليس لي قائد يلائمني إلى المسجد، وطلب منه أن يرخص له أن يصلي في بيته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أتسمع النداء؟ قال: نعم.
قال: فأجب).
فإذا كان عليه الصلاة والسلام لم يرخص لرجل أعمى أن يتخلف عن الجماعة فكيف بمن يكون صحيحاً معافى سليم العينين والرجلين والأعضاء، متعه الله بالصحة والعافية، ثم يتهاون في الجماعة ويتكاسل في شهودها؟ وعدم ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل الأعمى في ترك الجماعة مع ضعفه، وطول المسافة بينه وبين المسجد، وعدم وجود قائد يلائمه؛ يدل على وجوب صلاة الجماعة.
ومما يدلنا على ذلك أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار)، فكونه صلى الله عليه وسلم هم بتحريق بعض البيوت على أصحابها؛ لأنهم متخلفون عن صلاة الجماعة في الوقت الذي يصلي الناس فيه جماعة؛ دل أنهم متلبسون بمعصية، فهمه صلى الله عليه وسلم بهذه العقوبة الشديدة يدلنا على وجوب صلاة الجماعة، وهو إن لم يفعل لكن مجرد الهم واضح الدلالة، وقد جاء في بعض الأحاديث ما يدل على أنه لم يحرف بيوتهم لما فيها من النساء والذرية الذين لا تجب عليهم الجماعة، لكن كون النبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا الكلام، ويهم بهذا الهم، دليل واضح على وجوب صلاة الجماعة.
ومما يدل على وجوبها أيضاً: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما من الأجر لأتوهما ولو حبواً) فبين عليه الصلاة والسلام أن الصلوات كلها ثقيلة على المنافقين، ولكن العشاء والفجر أثقلهما عليهم؛ لأن قوله: (أثقل) يدلنا على أن الصلاة كلها ثقيلة، ولكن هاتين الصلاتين أثقل، وذلك أن صلاة العشاء تكون في أول الليل حيث يكون الناس قد كدحوا في النهار وهم بحاجة إلى الراحة، فالذي لا يبالي بشأن الصلاة ينام بعد المغرب، ويأتي وقت العشاء وهو نائم، وكذلك وقت الفجر يكون في الوقت الذي يكون فيه التمكن في النوم، وطيب الفراش، والتلذذ بالنوم.
فالمنافقون لا تهمهم صلاة الجماعة، وإنما يهمهم مصالح أنفسهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما من الأجر لأتوهما ولو حبواً) ثم قال: (والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء) لو كان في المسجد طعام يسير جداً لبادر هؤلاء المنافقون إلى المسجد من أجل أن يحصلوا نصيبهم من الدنيا؛ لأن همهم الدنيا وليس همهم الآخرة، ولما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على العكس من ذلك وعلى خلاف ذلك كان الواحد منهم يصيبه المرض ثم لا تسمح نفسه أن يصلي في بيته وهو معذور، بل يأتي يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يلقى الله غداً مؤمناً فليحافظ على هذه الصلوات الخمس حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف) من شدة المرض لا يستطيع أن يمشي بمفرده، بل يحتاج إلى من يعضده عن يمينه وشماله حتى يؤتى به إلى المسجد، فهذه أحوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما المنافقون فقد قال عنهم الرسول: (لو يعلمون ما فيهما من الأجر لأتوهما ولو حبواً)، وأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمون ما في صلاة الجماعة من الأجر؛ فيأتون إليها وهم مرض يهادون بين الرجال، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: كنا إذا فقدنا الرجل في صلاة العشاء اتهمناه.
يعني: بالنفاق، إذا وجدوا إنساناً لا يصلي العشاء ولا يأتي المسجد في صلاة العشاء يتهمونه بالنفاق، فهي علامة المنافقين.
كل هذه الأدلة تدلنا على وجوب صلاة الجماعة، وأن الإنسان يجب عليه أن يحافظ عليها وأن يحرص عليها.
ثم ما معنى المؤذن حي على الصلاة حي على الفلاح؟ قوله: حي على الصلاة حي على الفلاح أي: تعالوا، هذا هو معنى الأذان، والمساجد بنيت لإقامة الصلاة جماعة، والمؤذن يقول: حي على الصلاة حي على الفلاح من أجل أن يأتي الناس إلى المسجد للصلاة، لا من أجل أن يصلوا في بيوتهم.