قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من قال: يقوم صف مع الإمام وصف وجاه العدو فيصلي بالذين يلونه ركعة ثم يقوم قائماً حتى يصلي الذين معه ركعة أخرى، ثم ينصرفون فيصفون وجاه العدو، وتجيء الطائفة الأخرى فيصلي بهم ركعة ويثبت جالساً فيتمون لأنفسهم ركعة أخرى، ثم يسلم بهم جميعاً.
حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه في خوف فجعلهم خلفه صفين، فصلى بالذين يلونه ركعة، ثم قام، فلم يزل قائماً حتى صلى الذين خلفهم ركعة، ثم تقدموا وتأخر الذين كانوا قدامهم، فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة، ثم قعد حتى صلى الذين تخلفوا ركعة، ثم سلم).
هذه ترجمة في كيفية من الكيفيات التي جاءت بها صلاة الخوف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سبقت كيفية تتعلق بما إذا كان العدو في جهة القبلة، وهذه الكيفية فيما إذا كان العدو في غير جهة القبلة.
والترجمة واضحة أنه يجعلهم صفين، صفّاً تجاه العدو، وصفّاً معه، فيصلي بمن معه ركعة ثم يقوم للركعة الثانية ويثبت قائماً حتى يصلي الذين معه ركعة ثانية لأنفسهم، ثم ينصرفون، ويأتي الذين هم وجاه العدو فيصلي بهم ركعة ويثبت جالساً بعد أن ينهي الركعة، فيأتون بالركعة التي بقيت عليهم، ثم يسلم بهم جميعاً.
هكذا يقول المصنف، وكلامه واضح إلا في قوله: [ثم يسلم بهم جميعاً] لأن الحديث الذي أورده ليس فيه شيء يدل على هذا، وإنما الذين صلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى وأتموا لأنفسهم سلموا وذهبوا، ثم هؤلاء الذين كانوا وجاه العدو إذا جاءوا فصلوا معه الركعة الثانية، فإنه يجلس للتشهد وهم يتمون لأنفسهم الركعة التي بقيت عليهم، ثم يسلم بهم، أي بالطائفة الثانية.
فالترجمة التي أوردها المصنف واضحة إلا في قوله: (ثم يسلم بهم جميعاً)؛ لأن الطائفة الأولى ذهبت بعد أن فرغت من صلاتها وانتهت، والطائفة الثانية هي التي بقيت معه حتى سلم، فسلم بها صلى الله عليه وسلم.
أورد أبو داود رحمه الله حديث سهل بن أبي حثمة، وهو غير واضح المطابقة للترجمة، وذلك أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل أصحابه صفين، فالطائفة الأولى معه، والطائفة الثانية وجاه العدو، فصلى بالذين معه ركعة، ثم ثبت قائماً حتى صلى الذين خلفهم -أي: الطائفة الثانية- ركعة، ثم جاءوا، ثم صلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ولما بقي جالساً أتم الذين تخلفوا ركعة، ثم سلم صلى الله عليه وسلم، يعني: ثم سلم بهم.
فالحديث لا يطابق الترجمة، وقد قال صاحب عون المعبود: إن الطائفة الأولى لم يذكر قيامها بالركعة الثانية وأنها أتمت لأنفسها ركعة ثم ذهبت، لكن يبقى الإشكال وهو قوله: إن الرسول بقي حتى صلى الذين وراءهم ركعة، ثم صلى بهم الرسول صلى الله عليه وسلم الركعة الباقية من صلاته، ولما جلس في التشهد صلى الذين تخلفوا ركعة، وعلى هذا إذا كان المقصود بها الطائفة الثانية فمعناه أنه حصل لها ثلاث ركعات، والطائفة الأولى ما حصل لها إلا ركعة، وقد قال صاحب عون المعبود: إن الركعة الثانية لم تذكر، ولعلها تركت أو لم تذكر اختصاراً.
لكن لو كان قوله: (فلم يزل قائماً حتى صلى الذين خلفهم ركعة) معناه: حتى صلى الذين خلفه -بدون ميم- لكانت هذه الركعة الثانية للطائفة الأولى، ثم الطائفة الثانية أدركت الركعة الثانية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد أن ثبت جالساً أتموا لأنفسهم، فعلى هذا يستقيم الكلام طبقاً للترجمة؛ وإذا كان الحديث أو اللفظ فيه شيء من الخطأ، وأن (خلفهم) صوابه: (خلفه) فإنه يستقيم أنه حصلت الركعة الثانية للأولين وأتموا، وأن الطائفة الثانية أدركوا الركعة الثانية مع الرسول صلى الله عليه وسلم وعندما جلس أتموا لأنفسهم وهو ينتظرهم جالساً ثم سلموا معه.
وإن كان المراد به أن الذين خلفهم صلوا لأنفسهم ركعة أولاً والرسول صلى الله عليه وسلم قائم، ثم صلوا الركعة الثانية معه صلى الله عليه وسلم، وكان المراد بـ (الذين تخلفوا) الذين صلوا الركعة الأولى ثم ذهبوا وجاه العدو، ثم جاءوا وصلوا الركعة الثانية والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، وأتموا لأنفسهم في حال جلوسه، ثم سلم بهم، فإنه يستقيم المعنى، إلا أنه لا يطابق الترجمة، وعلى هذا فالحديث غير واضح المطابقة للترجمة كما هو واضح بين.
فقوله: [عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه في خوف فجعلهم خلفه صفين، فصلى بالذين يلونه ركعة)].
هذه الركعة الأولى مع الجماعة الأولى الذين هم يلون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(ثم قام فلم يزل قائماً حتى صلى الذين خلفهم ركعة)].
(الذين خلفهم) إذا كانوا هم الجماعة الذين هم في جهة العدو فالمعنى أنهم صلوا لأنفسهم ركعة والرسول صلى الله عليه وسلم قائم؛ فهذه معناها ركعة مضت لهم.
قوله: [(ثم تقدموا وتأخر الذين كانوا قدامهم فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة)].
معناه: أن هذه أيضاً للذين كانوا خلفه من الصف الثاني.
قوله: [(ثم قعد حتى صلى الذين تخلفوا ركعة)].
ما المراد بالذين تخلفوا؟ إن أريد بهم الذين صاروا أهل الصف الأول، وأنهم ذهبوا ثم جاءوا وصلوا ركعة وسلم بهم جميعاً استقام الكلام، وقوله: (تخلفوا) يعني: أنهم رجعوا القهقرى.
وإن كان المقصود بالذين تخلفوا الذين كانوا وجاه العدو فتكون لهم ركعة ثالثة، وهذا لا يستقيم، ولو قيل كما قال صاحب عون المعبود: إن الجماعة الثانية ما ذكرت لهم الركعة وأنهم أتموا لأنفسهم فيبقى الإشكال أن هؤلاء عندهم ثلاث ركعات، فالحديث لا يطابق الترجمة.
ويمكن أن يقال كما هو ظاهر لفظ الحديث: إن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى بالجماعة الأولى ركعة ثم ذهبت، ثم جاءت الطائفة الثانية وصلت ركعة، والرسول صلى الله عليه وسلم قائم، فتكون هذه الركعة الأولى لهم، ثم الركعة الثانية لهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا جلسوا للتشهد يكونون قد صلوا ركعتين، والذين تخلفوا ورجعوا قد صلوا الركعة الأولى، فتكون هذه هي الركعة الأخيرة لهم، ويكون معناه: الطائفة الثانية عندها ركعة قبل الصلاة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وعندها الركعة الثانية مع الرسول صلى الله عليه وسلم، والطائفة الأولى الذين تخلفوا عندهم الركعة الأولى معه، ثم أتموا لأنفسهم والرسول صلى الله عليه وسلم جالس، ثم يسلم بهم جميعاً، فيستقيم هذا المعنى، لكن الترجمة التي ذكرها المصنف بالتفصيل لا تستقيم مع هذا الحديث.
والحديث لا أدري كيف لفظه؟ فليس بواضح؛ لأنه لو كان المقصود أن الجماعة الأولى صلت الركعة الأولى مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم صلت والنبي صلى الله عليه وسلم جالس فمعناه أن صلاتهم تتخللها صلاة الطائفة الثانية، ثم يسلم بهم جميعاً، فيستقيم الحديث لكن لا يطابق الترجمة، لأن الترجمة واضحة في أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالجماعة الأولى ركعة، وأتمت لنفسها وهو قائم، ثم الثانية جاءت وصلت مع الرسول صلى الله عليه وسلم الركعة الثانية، وأتمت لنفسها والرسول صلى الله عليه وسلم جالس، ثم سلم بالطائفة الثانية، هذا هو الذي يطابق الترجمة، ولا مطابقة بين الحديث والترجمة؛ لأن الحديث معناه ما سبق بيانه، والترجمة ليس فيها إشكال، هي واضحة ولكنها مطابقة للحديث الذي سيأتي عن صالح بن خوات من طريق يزيد بن رومان، لكن هذا الحديث هذا هو ظاهره، يعني: أن الطائفة الأولى صلت الركعة الأولى مع النبي صلى الله عليه وسلم، والطائفة الثانية صلت الركعة الأولى لها وحدها والرسول صلى الله عليه وسلم قائم، ثم صلت معه الركعة الثانية، ثم جلست حتى سلمت مع الرسول صلى الله عليه وسلم، والطائفة الأولى صلت الركعة الثانية والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، فتكون ركعتاها متباعدتين، ومعناه أنهم ذهبوا ولم يسلموا بل هم باقون في الصلاة، وجاءوا وصلوا ركعة ثانية والنبي صلى الله عليه وسلم جالس ثم سلم بهم جميعاً، فيستقيم هذا الكلام من ناحية التسليم؛ لكن لا يستقيم من ناحية أن الأولى أتمت لنفسها الركعة الثانية ثم جاءت الطائفة الثانية وصلت الركعة الأولى مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم أتمت لنفسها والرسول صلى الله عليه وسلم جالس ثم سلم بهم، لا يستقيم هذا.
وعلى كل: الحديث بلفظه يستقيم إذا قيل: إن الطائفة الأولى صلت ركعتها الأخيرة عند التشهد، والطائفة الثانية صلت ركعتها الأولى لنفسها مستقلة، ثم صلت ركعتها الثانية مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو صوب قوله: (الذين خلفهم) إلى: (الذين خلفه) لاستقام معنى الحديث مع الترجمة، لكن يبقى الإشكال أنه بعد ذلك قال: ثم تقدموا وتأخر الذين قدامهم، وهذا لا يستقيم.
وهذا كله مبني على أن العدو ليس في جهة القبلة؛ لأن الترجمة هذه مبنية على أنه في غير جهة القبلة، ويمكن أن يستقيم إذا كان في جهة القبلة.