ومما ينبغي أن ينبه إليه بالنسبة لـ أبي هريرة أن أبا هريرة أسلم عام خيبر في السنة السابعة، وكانت مدة بقائه مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنوات؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم توفي في أول سنة إحدى عشرة، ومع ذلك كان أبو هريرة أكثر الصحابة حديثاً، مع أن كثيراً من الصحابة لازموا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا معه كثيراً، ولم يرو عنهم مثلما روي عن أبي هريرة، مع أن أبا هريرة أقل مدة منهم.
وقد بين العلماء السبب في ذلك، ومما قيل في ذلك: إن أبا هريرة كان يلازم النبي صلى الله عليه وسلم في دخوله وخروجه وذهابه وإيابه؛ لأنه كان فقيراً، وكان يأكل من طعامه ويشرب من شرابه ويكون معه باستمرار، فحصل له من تلقي الحديث ما لم يحصل لغيره؛ بسبب هذه الملازمة في هذه الفترة القصيرة، فكان ذلك من أسباب كثرة روايته.
ثم أيضاً ما جاء في بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم حدث بأحاديث وكان بسط ثوبه ثم قبضه وقال: إنه لا يفوته شيء من ذلك، ومعناه أنه حفظ كل ذلك الذي سمعه.
ثم أيضاً: أبو هريرة رضي الله عنه كان ساكناً في المدينة ومقيماً فيها، والمدينة يأتيها الناس صادرين وواردين، ومن المعلوم أن الصحابي إذا كان موجوداً في البلد وقد ورد إلى البلد غير الصحابي فإنه يحرص على أن يلتقي بذلك الصحابي وأن يتلقى عنه الحديث؛ لأن رؤية الصحابي غنيمة، كما سبق أن مر في حديث الرجل الذي جاء إلى الرقة وقيل له: هل لك في رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: قلت: غنيمة، يعني: لقاؤه غنيمة؛ وذلك لأن الصحابي حصل له شرف الصحبة والرؤية للنبي صلى الله عليه وسلم، فالذي يرى الصحابة يرى العيون التي رأت النبي صلى الله عليه وسلم، فكان لقاء الصحابي غنيمة كما قال ذلك الرجل التابعي.
ومعنى هذا أن أبا هريرة رضي الله عنه كان مقيماً في المدينة والناس يحضرون ويردون إلى المدينة ويأتون إلى أبي هريرة ويأخذون منه ويعطونه، ويسمع منهم ويسمعون منه، لا سيما إذا كانوا صحابة وجاءوا إلى المدينة فيحدثهم ويحدثونه، فهذا من أسباب كثرة حديث أبي هريرة رضي الله عنه، مع أن مدته التي صحب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت وجيزة.
والحديث يبين أن الرفع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم صراحة فيه ما فيه، وبعض العلماء نهى عنه؛ والشيخ الألباني ضعف هذا الحديث في ضعيف سنن أبي داود، ولكنه ذكره في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وعزاه إلى الترمذي وإلى الحاكم، والترمذي والحاكم إنما رووه موقوفاً على أبي هريرة، إذ ليس فيه: قال صلى الله عليه وسلم كذا، إذاً له حكم الرفع، ولكنه ليس من قبيل ما هو مرفوع صراحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي تكلم فيه من رجاله هو قرة بن عبد الرحمن، وهو صدوق له مناكير، وقد أخرج حديثه مسلم وأصحاب السنن، ومسلم إنما أخرج له مقروناً.
[قال عيسى: نهاني ابن المبارك عن رفع هذا الحديث].
عيسى هو ابن يونس الفاخوري الذي ذكره أبو داود فيما بعد، وابن المبارك هو الذي روي من طريقه هذا الحديث الذي هو مرفوع حكماً وليس فيه (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) كذا عند الترمذي.
وقد نهى ابن المبارك عن رفع الحديث، أي: عن رفعه صراحة، بأن يقول: عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، لكن هذا لا ينفي أن يكون مرفوعاً حكماً كما عرفنا.
[قال أبو داود: سمعت أبا عمير عيسى بن يونس الفاخوري الرملي، قال: لما رجع الفريابي من مكة ترك رفع هذا الحديث وقال: نهاه أحمد بن حنبل عن رفعه].
ومعناه: أنه كان يرفعه فيقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، وكان هذا قبل أن يذهب إلى مكة، وبعد رجوعه من مكة ترك هذا، ولعله نبه على ذلك بمكة.
وعيسى بن يونس الفاخوري صدوق ربما أخطأ، أخرج حديثه النسائي وابن ماجة، قال في التقريب: لم يصح أن أبا داود روى له.
قد يقال: الفريابي شيخ لـ أحمد في هذا الحديث، فكيف نهاه أحمد عن رفعه؟
و صلى الله عليه وسلم أن صاحب عون المعبود قال: إن الضمير في [نهاه] يرجع إلى أبي داود، وإن أحمد نهى أبا داود عن رفع هذا الحديث، وأحمد هو شيخ أبي داود.