رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من قلوب الرجال، ولكن يقبض العلم بموت العلماء).
هذا الحديث الشريف يدلنا على أهمية العلم، وعلى عظم شأن العلماء، وأن فقدهم وذهابهم إنما هو قبض للعلم، وأن الله عز وجل لا يقبض العلم من قلوب الرجال بحيث يكون الإنسان عنده علم ثم يصبح وليس عنده علم، وإنما يقبض العلم بموت العلماء، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر).
هذا هو شأن العلماء وهذه هي منزلتهم، حيث وصفهم النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم بأنهم وُرّاث الأنبياء، ونعم الميراث ذلك الميراث، ألا وهو العلم الشرعي النافع المستمد من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا هو العلم الحقيقي الذي هو علم الكتاب والسنة.
وإن قبض العلماء -كما جاء في كلام بعض أهل العلم- ثلمة في الدين، ونقص للمسلمين، وإن مما حصل في الليلة الماضية أنه قد توفي العالم الكبير والمحدث الشهير العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله وغفر له، وهو في الحقيقة عالم كبير، ومحدث مشهور، وله جهود عظيمة في خدمة السنة، وفي العناية بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيان مصادر تلك الأحاديث، والكتب التي ذكرتها، وبيان درجتها من الصحة والضعف، ومن ذلك هذا الكتاب الذي نشرحه وهو سنن أبي داود، فإن له فيه وفي غيره جهوداً، حيث اعتنى بذكر ما صح وما ضعف، فجهوده عظيمة، وخدمته للسنة مشهورة، ولا يستغني طلبة العلم عن الرجوع إلى كتبه وإلى مؤلفاته، فإن فيها الخير الكثير وفيها العلم الغزير، وإن ذهاب مثل هذا العالم نقص على المسلمين ومصيبة، ونسأل الله عز وجل أن يعوض المسلمين خيراً، وأن يوفق المسلمين لما فيه الخير، وأن يوفق طلبة العلم للعناية بتحصيله وطبله ومعرفته، إنه سبحانه وتعالى جواد كريم.
وهو رحمة الله عليه وإن كان له بعض الآراء التي نعتبره قد أخطأ فيها، ولكنها مغمورة في بحور صوابه، وفيما حصل على يديه من الخير والنفع للمسلمين من خدمة سنة المصطفى صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وهذه الأمور التي حصلت منه -والتي نعتبرها أخطاء- هو مجتهد فيها، وهو مأجور على اجتهاده، ولكن ذلك لا يجعل الإنسان يتساهل أو يتهاون في علمه الكثير الغزير، وفي نفعه العظيم العميم، فإنه بحق من العلماء الأفذاذ الذين اشتهروا في هذا العصر، والذين لهم جهود في خدمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي بداية النصف الأول من هذا العام -الذي هو عام عشرين بعد الأربعمائة والألف- فقد المسلمون فيه عالماً كبيراً من العلماء الربانيين، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً، وهو سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه، وتوفي في آخر النصف الأول أيضاً من هذا العام العالم الكبير والمحدث المشهور: الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله عز وجل، وقد توفي بينهما الشيخ عطية محمد سالم رحمه الله الذي كان يدرس على هذا الكرسي، فهؤلاء علماء قد فقدناهم في النصف الأول من هذا العام، فنسأل الله عز وجل أن يغفر للجميع وأن يتجاوز عنهم، وأن يرفع درجاتهم، فإن هذين العالمين -فيما نحسب- من العلماء الكبار الجهابذة المحققين الذين عندهم العناية الفائقة بالعلم، وعندهم الهمة العالية، وقد حصل على أيديهم الخير الكثير، والنفع العظيم للإسلام والمسلمين، فجزاهم الله عز وجل أحسن الجزاء، وغفر لهم وتجاوز عن سيئاتهم، وختم لنا جميعاً بخاتمة السعادة، إنه سبحانه وتعالى جواد كريم.
قوله: [باب الرجل يعتمد في الصلاة على العصا].
يعني: هل له ذلك أو ليس له ذلك؟ فالمصلي إذا كان محتاجاً إلى أن يستعمل العصا وأن يعتمد عليها في قيامه فله ذلك، وقد جاء عن بعض الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أنهم كانوا يفعلون ذلك، وجاء في ذلك هذا الحديث الذي أورده أبو داود في هذا الباب، ولكنه حديث ضعيف غير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وممن ضعفه العالم المحدث الذي توفي في الليلة الماضية: الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله.
ومقتضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، لكن هذا لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سبق؛ لأن فيه من هو ضعيف، ولا يعول على حديثه ولا يحتج به.
ولكن قد جاء عن بعض الصحابة أنهم كانوا يفعلون ذلك في صلاة التراويح، ومن المعلوم أن القيام في الصلاة من أركان الصلاة وإذا كان الإنسان يقدر على أن يقوم، ولكنه إذا كان يحتاج إلى أن يعتمد على عصا فله ذلك، وقد جاء ذلك عن بعض الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وكان سبب الحديث أن أحد رواته جاء إلى مكان يقال له: الرقة، -وهي بلد معروف- فقيل له: هل لك في رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ يعني: هل لك رغبة في أن تلتقي برجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهذا يدلنا على أن الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم لما كانوا موجودين في زمن التابعين، كان التابعون يعتبرون الالتقاء بهم من أجل المكاسب ومن أعظم الغنائم، وكانوا يحرصون على أن يلقوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصحابة هم الذين رأوا النبي صلى الله عليه وسلم، فالذي يلقاهم ينظر إلى العيون التي نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن عيون الصحابة رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان التابعون هم الذين يرون الصحابة، وقرن التابعين يلي قرن الصحابة في الفضل.
فهذا التابعي لما قيل له: [هل لك في رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم] كان جوابه عظيماً: [قلت: نعم، غنيمة] يعني: رؤيته ولقيه غنيمة.
وهذا يدلنا على عظم منزلة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، ولهذا فرح هذا الرجل بذلك، وسُر به؛ لأنه عرض عليه أن يحصل على غنيمة كبيرة وعلى نعمة عظيمة، ألا وهي رؤية رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: [فذهبنا إلى وابصة] وهو وابصة بن معبد رضي الله تعالى عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا وهم ذاهبون إليه: [ننظر أولاً إلى دله] يعني: هيئته ولباسه والكيفية التي يكون عليها، قال: [فذهبنا إليه] وهذا يدلنا على أن التابعين يحرصون على أن يعرفوا هيئة الصحابة، وعلى دل الصحابة، وهيئة اللبس التي يكون عليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
قال: [فوجدنا عليه قلنسوة لاطئة] يعني: ملتصقة برأسه [لها أذانان، وعليه برنس خز، لونه أغبر] والخز هو لباس من الصوف، والبرنس هو الذي يكون رأسه مرتبط به، فما يغطى به الرأس يكون ملتصقاً بالقميص من الخلف، بحيث ينزع عن الرأس ويعاد على الرأس، ولون ذلك البرنس أغبر كلون التراب.
فجاءوا إليه ووجدوه يصلي، فلما سلموا قالوا له في ذلك فروي عن أم قيس بنت محصن الأسدية الحديث الذي ذكره أبو داود، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أسن وحمل اللحم، اتخذ عموداً في مصلاه يعتمد عليه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، ولكن الحديث كما عرفنا غير صحيح، وغير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقيام هو ركن من أركان الصلاة، ولا يجوز للإنسان أن يصلي جالساً مع قدرته على القيام، وإذا كان يقدر وليس عليه مشقة في أن يقوم -ولو كان معتمدا ًعلى عصا- فإن هذا هو الذي ينبغي له، وبعض أهل العلم يقول: يصلي جالساً، ولكن الأولى والأحوط في الدين أن يقوم الإنسان ما دام قادراً على القيام، حتى ولو كان معتمداً على عصا؛ لأن في ذلك أخذاً بالأحوط، واطمئناناً إلى كون الإنسان يؤدي ما عليه بارتياح وطمأنينة.