قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد قال حدثنا سفيان عن سليمان بن سحيم عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كشف الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر رضي الله عنه فقال: أيها الناس! إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، وإني نهيت أن أقرأ راكعاً أو ساجداً، فأما الركوع فعظموا الرب فيه، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء؛ فقمن أن يستجاب لكم)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كشف الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر) يعني: في مرض موته صلى الله عليه وسلم، والستارة: هي التي تكون على الباب، ولهذا لا بأس أن يكون على الأبواب ستار بحيث إذا فتح الباب تمنع من أن يُرى ما كان في الداخل، وكذلك الشبابيك لا بأس أن يكون عليها ستائر حتى إذا فتح الشباك فهناك ستارة تمنع من الرؤية إلى الداخل، وهذا يدل على أن اتخاذ الستائر على الأبواب والشبابيك لا بأس بها؛ لأن لها حاجة، ولكن الذي لا حاجة له والذي لا يصلح ولا ينبغي هو ستر الجدران، وذلك بأن يوضع عليها ستائر؛ فهذه زيادة لا حاجة إليها، وهو صرف للمال في غير حاجة إليه، وأما كونه يضع الستائر على الشبابيك والأبواب فلا بأس بذلك.
إذاً: فالرسول صلى الله عليه وسلم كشف الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وهو يصلي بالناس في مرض موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس! إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤية الصالحة يراها المسلم أو ترى له).
مبشرات النبوة هي التي يحصل البدء بها، فالرسول صلى الله عليه وسلم أول ما بُدئ به من الوحي الرؤيا الصالحة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ومن المعلوم أن الرؤيا بالنسبة للأنبياء يحصل فيها إخبار عن أمور مغيبة، وهي وحي؛ لأن رؤيا الأنبياء وحي، وغيرهم رؤاهم ليست وحياً، ولكن الرؤيا يمكن أن يستدل بها على أمر مستقبل، أو يتوقع أن يحصل أمر مستقبل، فهي تدل عليه، والمستقبل من أمور الغيب الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل، لكن قد يعرف عن طريق الرؤيا حصول شيء يحصل في المستقبل بسبب الرؤيا، وعندما تقع الرؤيا تكون مطابقة للشيء الذي يحصل في المستقبل، مثل: قصة صاحبي يوسف في السجن، فإن كل واحد منهما رأى رؤيا، وقصها وهي كلها تخبر عن أمر مستقبل أو ترشد إلى أمر مستقبل، وكان تأويل هذه الرؤيا طبقاً للشيء الذي رؤي، فأحدهما رأى أنه يعصر خمراً، وكان تعبيرها أنه يعصر خمراً، فالرؤيا منها ما يأتي تأويلها مطابقاً للشيء الذي رآه في المنام، وقد تكون الرؤيا على سبيل ضرب المثال لا تطابق الذي يراه في المنام، وهي رؤيا الشخص الثاني الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزاً تأكل الطير منه، فهذا لم يحمل خبزاً حقيقة، ولكنه صلب وقطع رأسه، ثم أتت الطير وأكلت من رأسه، فكلها إخبار عن أمر مستقبل.
قوله: [(يراها المسلم أو ترى له)] يعني: يكون فيها إشارة إلى شيء يحصل في المستقبل، ولا يعلم الغيب إلا الله عز وجل، وعن طريق الوحي يمكن أن يعرف شيئاً من الغيب، مثل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر عن أمور كثيرة تقع في المستقبل، ومنها ما قد وقع، ومنها ما لم يقع.
قوله: [(يراها المسلم أو ترى له)].
يعني: يراها المسلم نفسه، فيرى أنه يحصل له كذا وكذا، أو شخص آخر من الناس يراها له، كأن يقول: إن فلاناً حصل له كذا.
والرؤيا قد تكون أضغاث أحلام؛ لأنه ليس كل ما يجري في المنام يقال له: رؤيا، ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم كان بعد صلاة الفجر مباشرة يسأل أصحابه يقول: (من رأى منكم رؤيا يقصها؟) فإذا رأى شخص رؤيا وقصها مباشرة لم تكن ذهب منها شيء، ففي مرة من المرات أخبر صلى الله عليه وسلم عن رؤيا طويلة رآها، كما في حديث عبد الرحمن بن سمرة الطويل في رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم.
أيضاً: إذا كانت الرؤيا طيبة فإنه يخبر بها، وإذا كانت غير ذلك فلا يخبر بها أحداً؛ لأنه قد يترتب عليها فتنة أو مضرة أو ما إلى ذلك.
والرؤيا الصالحة إذا استبشر بها العبد وفرح فليس عليه من حرج، لكن لا ينبغي للناس أن يهتموا بالرؤى وأن يحرصوا عليها، وأن يكون الإنسان فقط مشغولاً يحب أن يرى رؤيا أو كذا إلى آخره، لا، الرؤيا تأتي دون قصد، وأحياناً قد يشغل الإنسان نفسه في شيء ثم يراه في المنام؛ بسبب أنه مشغول به دائماً وأبداً.
قوله: [(وإني نهيت أن أقرأ راكعا ً أو ساجداً)].
الرسول صلى الله عليه وسلم إذا قال: (نهيت)، فالناهي له هو الله عز وجل، وإذا قال: (أمرت)، فالآمر له هو الله عز وجل، بخلاف الصحابة إذا قالوا: أمرنا أو نهينا فإن الآمر لهم والناهي لهم هو رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأمره ونهيه إنما هو من عند الله كما قال الله عز وجل: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، لكن هم يسندون الخبر إلى من علمهم وأرشدهم، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يسند ذلك إلى من أمره ونهاه، وهو الله عز وجل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يأمره وينهاه هو الله، والصحابة الذي يأمرهم وينهاهم هو الرسول صلى الله عليه وسلم.
والسنة هي من الله عز وجل، وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة تدل على هذا، ومنها: حديث أنس الطويل في قضية فريضة الصدقة التي فرضها الله، فذكر فيه زكاة الأنعام وغيرها بالتفصيل، ثم قال: فرضها الله، مع أنها ليست في الكتاب وإنما هي في السنة، وهذا يدل على أنها وحي من الله عز وجل، الله تعالى هو الذي فرضها وأوحى بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك الحديث الذي فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر الشهيد وأنه يغفر له، ثم قال بعد ذلك: (إلا الدين فإنه سارني به جبريل آنفاً) يعني: هذا الاستثناء وحي.
قوله: [(فأما الركوع فعظموا الرب فيه)].
أي: أكثروا من الثناء على الله عز وجل والتعظيم، لكن لا مانع أن يدعى فيه؛ لأنه قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قول: (سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي)، وهو دعاء بالإضافة إلى كونه ذكر وثناء.
قوله: [(وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم) أي: حري وجدير أن يستجاب لكم، وفيه من الإكثار من الدعاء مثل الذي مر في الحديث الأول الذي قال فيه: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا فيه من الدعاء).
وهذا الحديث كون الرسول صلى الله عليه وسلم قاله في آخر حياته وفي مرضه فيه دليل على أن الرؤيا من مبشرات النبوة، وهي التي تبقى بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، بحيث إذا كانت الرؤيا صادقة فقد يحصل ويتحقق ما رؤي فيها.
وقوله: [(وإني نهيت)].
يحتمل أن يكون في المنام، ويحتمل أن يكون في غيره؛ لأن رؤيا الأنبياء وحي، لكن لا يقال جزماً: إن هذا النهي إنما حصل في المنام، يمكن أن يكون في المنام ويمكن أن يكون في غيره من أنواع الوحي أو الكيفيات التي يحصل بها الوحي.
أما مسألة الاقتران بين الجمل بين قوله: [(لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له)] وبين قوله: [(وإني نهيت أن أقرأ)] فهذا إخبار عن عدة أشياء قالها صلى الله عليه وسلم في هذه المناسبة، فيحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى الرؤيا وإلى أنه يحصل منها كذا وكذا، لاسيما وكونه في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، وأن هذا هو الذي سيبقى، وأن معرفة الأمور المغيبة أو الإرشاد إلى الأمور المغيبة لا يكون إلا عن طريق هذا الشيء، أما عن طريق الكهان أو ما إلى ذلك من الأشياء غير الصحيحة، والأمور المحرمة فهذا ليس من الأمور التي يمكن أن يعرف بها أمر مستقبل، وإنما عن طريق هذه الرؤيا التي هي من مبشرات النبوة، التي كانت أول ما بدأ بها الرسول صلى الله عليه وسلم.