قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: في الدعاء في الركوع والسجود.
حدثنا أحمد بن صالح وأحمد بن عمرو بن السرح ومحمد بن سلمة قالوا: حدثنا ابن وهب أخبرنا عمرو -يعني: ابن الحارث - عن عمارة بن غزية عن سمي مولى أبي بكر أنه سمع أبا صالح ذكوان يحدث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا من الدعاء)].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة: باب في الدعاء في الركوع والسجود.
الدعاء: هو طلب الشيء من الله وسؤال الله الأشياء، كسؤاله المغفرة، وسؤاله من خيري الدنيا والآخرة، فهذا أجل دعاء، وهناك أدعية وأذكار، فالأذكار هي التي فيها ثناء على الله عز وجل وتعظيم وتمجيد لله، وقد سبق أن مر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للذي سأله: (سبح الله وهلله وكبره، قال: هذه لربي فما لي؟ قال: قل: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني) فهذا فيه ذكر ودعاء، فهو شيء لله وشيء للعبد، ولهذا جاء في الحديث القدسي يقول الله عز وجل: (قسمت الصلاة -أي: قراءة الفاتحة- بيني وبين عبدي نصفين) فنصفها لله عز وجل وهو ثناء وتعظيم لله عز وجل، ونصفها للعبد وهي مطالب قال عز وجل: {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:1 - 5] هذه لله وقوله عز وجل: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:5 - 7] هذه مطالب للعبد، ولهذا يقول فيها: (ولعبدي ما سأل) أي: أنها سؤال وطلب، فكونه يقول: {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] فهذا طلب للعون من الله، وكونه يقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] يعني: يطلب الهداية، فالدعاء سؤال، أما الذكر فهو ثناء وتعظيم لله سبحانه وتعالى.
إذاً: هذه الترجمة التي ذكرها أبو داود هنا تتعلق بالدعاء والسؤال، وأما الترجمة السابقة فكلها في بيان ما يقوله في ركوعه وسجوده من الذكر الذي فيه التعظيم والثناء لله عز وجل.
أورد أبو داود حديث أبي هريرة: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء) وهذا فيه بيان أن حالة السجود هي أخص أحوال العبد، وأقرب ما يكون فيها صلة بالله سبحانه وتعالى؛ لأنه في غاية الخضوع والذلة لله سبحانه وتعالى، فيكون بذلك مخبتاً راجياً سائلاً؛ لأنه في حالة غاية التذلل لله سبحانه وتعالى؛ لأنه يضع أشرف شيء فيه وهو وجهه -جبهته وأنفه- على الأرض؛ خضوعاً لله وذلاً له سبحانه وتعالى، فيكون عند ذلك مأموراً بأن يكثر من الدعاء؛ لأن هذا أقرب أحوال العبد صلة بربه، وأرجى ما يكون في الدعاء أن يكون ساجداً مخبتاً لله سبحانه وتعالى، وقد صار على هذه الهيئة التي هي الخضوع والذل لله سبحانه وتعالى، ويكون فيها أغلب أعضائه أو أكثر جسمه على الأرض، بخلاف الأحوال الأخرى فهو إما قائم أو راكع أو جالس، ولكن حالة السجود أكثره على الأرض وأشرف شيء فيه على الأرض، ولهذا في السجود القدمان والركبتان واليدان والوجه كل ذلك موضوع على الأرض، والإنسان مأمور بأن يسجد على هذه الأعضاء، ولهذا قيل لأماكن الصلاة: مساجد، ما قيل لها: مراكع، ولا مواقف، ولا مجالس نسبة للجلوس بين السجدتين أو الجلوس في التشهد أو الركوع أو القيام في الصلاة وبعد الركوع، وإنما قيل: لمواضع الصلاة مساجد؛ لأن هذه هي الهيئة التي يكون فيها أكثر أعضاء جسم الإنسان متمكناً من الأرض.
وقد سبق أن مر: (أنه كان يقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى) يعني: كون الإنسان في غاية التذلل والخضوع، ويأتي بهذا الوصف المناسب لعلو وعظمة الله عز وجل، وأنه العلي الأعلى سبحانه وتعالى، فهذا دليل على أن السجود يكثر فيه من الدعاء، ويمكن أن يطول ويأتي بالأدعية الكثيرة المتنوعة، وقد جاء أيضاً في الحديث الذي سيأتي: (أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء؛ فقمن أن يستجاب لكم).