قال المصنَّف رحمة الله عليه: [باب من رأى القراءة إذا لم يجهر الإمام بقراءته.
حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا شعبة، ح: وحدثنا محمد بن كثير العبدي أخبرنا شعبة -المعنى- عن قتادة عن زرارة عن عمران بن حصين رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر فجاء رجل فقرأ خلفه بـ: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) فلما فرغ قال: أيكم قرأ؟ قالوا: رجل، قال: قد عرفت أن بعضكم خالجنيها).
قال أبو داود: قال أبو الوليد في حديثه: قال شعبة: فقلت لـ قتادة: أليس قول سعيد: أنصت للقرآن؟ قال: ذاك إذا جهر به، وقال ابن كثير في حديثه: قال: قلت لـ قتادة: كأنه كرهه، قال: لو كرهه نهى عنه].
يقول الإمام أبو داود رحمه الله تعالى: [باب من رأى القراءة إذا لم يجهر الإمام بقراءته].
والمقصود من هذه الترجمة أن الإمام إذا أسر القراءة فإن المأموم يقرأ الفاتحة وغيرها ولكنه لا يجهر بحيث يشوش على الإمام وعلى غير الإمام، فليس هناك معارضة أو تنافٍ مع قراءة الإمام، فإذا جهر الإمام فإنه يستمع، وإذا أسر الإمام فليس هناك استماع، فعلى المأموم أن يقرأ الفاتحة وغيرها ولا يسكت، وقد عرفنا فيما مضى إن العلماء اختلفوا في قراءة المأموم الذي يصلي وراء الإمام على ثلاثة أقوال:- القول الأول: أنه يقرأ الفاتحة دون غيرها سواء جهر الإمام أو أسر.
والقول الثاني: أنه لا يقرأ في الجهرية ولا في السرية، أي: ليس على المأموم قراءة سواء أسر الإمام أو جهر.
والقول الثالث: التفصيل بين السرية والجهرية، فيستمع في الصلاة الجهرية، ويقرأ في الصلاة السرية، لأنه ليس هناك قراءة قرآن حتى يستمع لها.
والراجح هو القول الأول الذي يقول بلزوم قراءة الفاتحة على المأموم في جميع الأحوال، سواء أسر الإمام أو جهر، وأما بالنسبة لغير الفاتحة فلا يقرأها في الجهرية، ولكن يقرأها مع الفاتحة في السرية، والدليل على هذا أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)، أو (إلا أن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب).
وقد أورد أبو داود حديث عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه: [(أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر، فجاء رجل وقرأ خلفه: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى)] معنى ذلك أنه سمع صوت قراءته بها.
قال: [(فلما فرغ قال: أيكم قرأ؟ قالوا: رجل.
قال: قد عرفت أن بعضكم خالجنيها)] يعني: نازعني في القراءة، فالمخالجة هي المنازعة في القراءة والمداخلة، وهذا إنما يكون محذوراً وممنوعاً إذا جهر، وأما إذا كانت القراءة بدون جهر فإن هذا لا إشكال فيه، ولا يؤثر على الإمام شيئاً، ولهذا عرف الرسول صلى الله عليه وسلم أن الرجل قرأ بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]؛ لأنه رفع صوته.
قوله: [قال أبو داود: قال أبو الوليد في حديثه: قال شعبة: فقلت لـ قتادة: أليس قول سعيد: أنصت للقرآن؟ قال: إنما ذاك إذا جهر به] أي: وهذه الصلاة سرية، والصلاة السرية يقرأ فيها؛ لأنه ليس فيها قرآن ينصت له، وإنما يكون الإنصات في الصلاة الجهرية، ولا يقرأ إلا الفاتحة، وإن كان الإمام يجهر بالقراءة، فيحاول أن يقرأ في سكتات الإمام، كالسكتة الأولى التي يستفتح بها، وإن وجد غير ذلك من السكتات فإنه يقرأ في ذلك، وإن لم يكن هناك سكوت فإن الفاتحة تقرأ ولو كان الإمام يقرأ؛ لأنه قد جاء استثناؤها عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
قوله: [وقال ابن كثير في حديثه: قال: قلت لـ قتادة: كأنه كرهه، قال: لو كرهه نهى عنه].
ابن كثير هو شيخ أبي داود في الطريق الثانية، وأبو الوليد هو شيخ أبي داود في الطريق الأولى، وابن كثير هو محمد بن كثير العبدي، قال: [قلت لـ قتادة: كأنه كرهه] يعني: كره هذا الفعل، قال: [لو كرهه لنهى عنه]، والمقصود من ذلك أن القراءة لو كانت منهياً عنها لمنع منها، ولكن الشيء الذي يكره إنما هو الجهر؛ لأن الإمام لا يجهر وكذلك المأموم لا يجهر، فالجهر يحصل به التشويش والمخالجة وانشغال الإمام.
وأما أصل القراءة فإنها مشروعة، وقد جاء ما يدل على ذلك عن الصحابة، فجاء أنهم كانوا يقرءون خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام كان يسمعهم الآية أحياناً؛ حتى يعرفوا السورة التي يقرأ بها من أجل أن يقرءوا بها.