قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث عن موسى بن سالم حدثنا عبد الله بن عبيد الله قال: (دخلت على ابن عباس في شباب من بني هاشم، فقلنا لشاب منا: سل ابن عباس: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر؟ فقال: لا لا، فقيل له: فلعله كان يقرأ في نفسه، فقال: خمشاً! هذه شر من الأولى، كان عبداً مأموراً بلغ ما أرسل به، وما اختصنا دون الناس بشيء إلا بثلاث خصال: أمرنا أن نسبغ الوضوء، وأن لا نأكل الصدقة، وأن لا ننزي الحمار على الفرس)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس أنه سئل عن الرسول صلى الله عليه وسلم هل كان يقرأ في الظهر والعصر؟ فقال: لا، قيل: فلعله كان يقرأ في نفسه، فقال: [خمشاً]، وهي كلمة دعاء على السائل، ثم قال [هذه شر من الأولى]، يعني: شرّ من السؤال الأول، [كان رسول الله عبداً مأموراً بلغ ما أرسل به]، أي أن ابن عباس ما علم أنه كان يقرأ، وقد مر في الحديث: (ما أسمعناه أسمعناكم إياه، وما أخفاه علينا أخفينا عليكم)، وهذا فيه أن ابن عباس ينفي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ، وسيأتي في الرواية التي بعدها أنه كان يشك هل كان يقرأ أو لا يقرأ، ولكن الإثبات قد جاء عن غيره من الصحابة، وجاء عنه -أيضاً- ما يوافق رواية الجماعة، وهي رواية الإثبات، وعلى هذا فإن القراءة في صلاة الظهر والعصر ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد عرفنا أن من الأدلة على ذلك أنه كان يسمعهم الآية أحياناً، وأنهم كانوا يستدلون على ذلك باضطراب لحيته، وكذلك -أيضاً- حديث أبي سعيد أنهم حزروا قراءته صلى الله عليه وسلم في الظهر بثلاثين آية، أي: في كل ركعة من ركعات الصلاة.
يقول عبد الله بن عبيد الله، وهو ابن عبيد الله بن عباس [دخلت على ابن عباس في شباب من بني هاشم] أي: مجموعة من شباب بني هاشم، وهو واحد منهم.
قوله: [فقلنا لشاب منا] أي: لواحد من هؤلاء الشباب [سل ابن عباس: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الظهر والعصر؟ فقال: لا، فقيل له: فلعله كان يقرأ في نفسه، فقال: خمشاً] أي: دعا عليه بأن يخمش وجهه، ويحصل له شيء من هذا السوء، وهذا يقال في حالة الإنكار، وهو مثل بعض العبارات التي تذكر ولا يراد ظاهرها، مثل: (عقرى حلقى)، و (تربت يداك)، و (ثكلتك أمك)، وما إلى ذلك من الألفاظ.
قوله: [وما اختصنا] أي: بني هاشم [دون الناس بشيء] أي: نتميز به.
[إلا بثلاث خصال: أمرنا أن نسبغ الوضوء].
قوله: [أمرنا بأن نسبغ الوضوء] إسباغ الوضوء يكون بإبلاغه إلى ثلاث غسلات، ويكون بالدلك، ويكون -أيضاً- بالمبالغة في إيصال الماء إلى العضد، فهذا كله يدخل تحت الإسباغ، لكنّ ذلك لا يختص ببني هاشم، فقد جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أسبغ الوضوء، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً)، وهذا حكم عام.
وأما الخصلة الثانية فهي قوله: [وأن لا نأكل الصدقة] وهذا خاص ببني هاشم.
والخصلة الثالثة قوله: [وأن لا ننزي الحمار على الفرس] وهذا لا يختص ببني هاشم، بل هذا لهم ولغيرهم، والمقصود من ذلك أن لا ينقطع نسل الخيل التي هي عدة الجهاد في سبيل الله؛ لأنه إذا أنزي الحمار على الفرس يخرج منهما البغل، وليس فيه ما في الفرس من القدرة على الكر والفر الذي يكون في وقت القتال في سبيل الله تعالى، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة) فإنزاء الحمار على الفرس يكون فيه تولد البغل بينهما، فيؤدي ذلك إلى عدم كثرة نسل الخيل التي هي العدة في الجهاد، والتي فيها الكر والفر أثناء الجهاد في سبيل الله، والحاصل أن هذه الثلاث الخصال واحدة منها مختصة ببني هاشم، والاثنتان الباقيتان ليستا مختصتين بهم.
وقال بعض أهل العلم: لعل المقصود أن هذه تجب على بني هاشم، فيجب عليهم إسباغ الوضوء، وغيرهم لا يجب عليه ذلك، ويمكن أن يقال: إن هذا هو الذي بلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك مثلما جاء عن علي رضي الله عنه أنه قال: ما اختصنا بشيء دون الناس إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في كتاب الله، وما في هذه الصحيفة.
يعني أن ما في هذه الصحيفة ليس خاصاً بهم.