وكانت عائشة رضي الله عنها وأرضاها تخبر أنها كانت تظن أن براءتها ستكون أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه رؤيا يبرؤها الله بها؛ لأن رؤيا الأنبياء وحي، ولكن الله عز وجل أنزل فيها قرآناً يتلى، ومع هذا الذي أكرمها الله به من إنزال قرآن يتلى في براءتها تتواضع وتقول: (ولشأني في نفسي أحقر من أن ينزل الله فيّ قرآناً يتلى).
وهذا شأن أولياء الله، حيث أعطاهم الله ما أعطاهم من الكمال ومع ذلك يتواضعون لله عز وجل، ولهذا فإن ابن القيم رحمه الله في كتابه (جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام صلى الله عليه وسلم) عندما جاء إلى ذكر الآل ترجم لأمهات المؤمنين؛ لأنهن داخلات تحت الآل حين يقال: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد).
فترجم لكل واحدة من أمهات المؤمنين ترجمة وأتى بشيء من فضائلها، ولما جاء عند عائشة رضي الله عنها وأرضاها ذكر تواضعها، وأن الله عز وجل أنزل فيها ما أنزل وكانت تقول: كنت أتمنى أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه رؤيا يبرؤني الله بها، ولشأني في نفسي أحقر من أن ينزل الله فيّ آيات تتلى.
وذكر أن هذا من تواضعها، ثم قال: أين هذا ممن يصوم يوماً من الدهر ويقول: أنا فعلت كذا وكذا.
وذكر أمثله.
فهذا شأن أولياء الله كما قال تعالى عنهم: {يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60].
ومثل ذلك قصة أويس القرني مع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه خير من مشى على الأرض بعد الأنبياء والمرسلين وبعد أبي بكر رضي الله تعالى عنهما وعن الصحابة أجمعين، وأويس القرني هو من التابعين، بل هو خير التابعين، فقد قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (إن خير التابعين رجل يقال له: أويس) وذكر شيئاً من صفاته ثم قال: (فمن وجده منكم فليطلب منه أن يستغفر له)، فكان عمر رضي الله عنه يسأل الذين يأتون من اليمن للحج: أفيكم أويس؟ حتى وجد أويساً، ولما سأله وتحقق أنه أويس قال له: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا، وأنا أطلب منك أن تستغفر لي.
فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بشر بالجنة، وله قصر في الجنة، ولكن لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا طلب من أويس أن يستغفر له، لكن ماذا قال أويس؟ لقد كان عمر يتواضع من جانبه وأويس كان يتواضع من جانبه.
فـ أويس يقول: أنتم أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، فأنتم الأحق بأن يطلب منكم الاستغفار.
فما تعاظم وتكبر لكون صحابي يقول له هذا الكلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما زاده ذلك إلا تواضعاً، ولهذا لما قال له عمر: إلى أين تذهب؟ قال: إلى البصرة أو إلى الكوفة.
قال: هل أكتب لك إلى أميرها؟ قال: دعني أكون مع الناس.
أي: غير معروف وغير مشهور وغير بارز وغير ظاهر.
فالحاصل أن عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك والكذب الذي ألصق بها وأضيف إليها رضي الله عنها وأرضاها أنزل الله براءتها في تلك الآيات من سورة النور.
وهنا أورد المصنف رحمه الله تعالى عن عائشة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه هذه الآيات من سورة النور التي فيها براءتها -رضي الله عنها وأرضاها- كشف عن وجهه، أي: بعد أن أوحي إليه؛ لأنه كان صلى الله عليه وسلم عندما يوحي إليه تصيبه شدة ويصيبه كرب شديد، حتى إنه يكون في اليوم الشاتي الشديد البرودة يتفصد جبينه عرقاً من شدة ما يحصل له عند الوحي صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
قالت: [(وكشف عن وجهه وقال: أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم ((إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ)) [النور:11])].
والمقصود من إيراد أبي داود رحمه الله لهذا الحديث أنه ذكر الاستعاذة وما ذكر البسملة قبل قراءته قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور:11].
لكن عدم إيراد البسملة لا يدل على أن هناك بسملة في هذا المكان؛ لأن هذا ليس أول السورة، والبسملة إنما تكون في أوائل السور إلا في سورة براءة، وأما قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور:11] فهو في أثناء السورة وليس في مطلعها؛ لأن سورة النور أولها قوله تعالى: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا} [النور:1] وبعد آيات متعددة جاءت الآية الكريمة: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ).
فكونه ما قال: (بسم الله الرحمن الرحيم) ليس معناه أنه لم يجهر بالبسملة أو لم يأت بالبسملة؛ لأن هذا ليس مكان بسملة، ولكنه مكان استعاذة.
فالإنسان إذا أراد أن يقرأ من وسط السورة يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وإذا كان يريد أن يقرأ من أول السورة يستعيذ ويبسمل، فهنا الآيات ليست من أول السورة، فلا يظهر وجه لإيراد الحديث تحت هذه الترجمة.
ثم إن هذا الحديث قال عنه أبو داود [وهذا حديث منكر] وذلك لأن الذين رووا عن الزهري قصة الإفك وحديث الإفك -وهم كثيرون- ما ذكروا الاستعاذة، وإنما ذكروا أنه أتى بالآيات التي أنزلها الله تعالى عليه دون أن يسبقها استعاذة.
وقال أبو داود رحمه الله: [وأخاف أن يكون أمر الاستعاذة من كلام حميد] أحد رجال الإسناد، وهو حميد الأعرج، ولا بأس به، أي أنه صدوق، وهو من رجال الكتب الستة، وبعض أهل العلم قال: إنه على موجب الاصطلاح فإن الثقة المخالف لمن هو أوثق منه يقال لحديثه: شاذ.
ولا يقال له: منكر.
وإنما المنكر مخالفة الضعيف للثقة.
وعلى هذا فيكون ذكر الاستعاذة في هذا الموضع فيه مخالفة، ومخالفة الثقة لمن هو أوثق منه تعتبر شذوذاً، ولا يعتبر هذا من زيادة الثقة، لأن في رجال الإسناد من هو متصف بالخطأ كما سيأتي ذكره.
وعلى كل حال فإن إيراد الحديث تحت ترجمة [من لم ير الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم] ليس بواضح؛ لأنه ليس فيه عدم الجهر بالبسملة؛ لأن البسملة ليس هذا مكانها، وإنما تأتي في أوائل السور.