قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من أحق بالإمامة: حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا شعبة أخبرني إسماعيل بن رجاء سمعت أوس بن ضمعج يحدث عن أبي مسعود البدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله وأقدمهم قراءة، فإن كانوا في القراءة سواء فليؤمهم أقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فليؤمهم أكبرهم سناً، ولا يُؤَمُّ الرجلُ في بيته ولا في سلطانه، ولا يُجلَس على تكرمته إلا بإذنه) قال شعبة: فقلت لـ إسماعيل: ما تكرمته؟ قال: فراشه].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: [باب من أحق بالإمامة] يعني: من هو الذي يكون أولى وأحق من غيره بأن يكون إماماً للناس يصلي بهم؟ وقد أورد أبو داود رحمه الله أحاديث تتعلق ببيان من هو الأولى، ومحصلها: أنه يقدم الأقرأ، ثم الأعلم بالسنة، ثم الأقدم هجرة، ثم الأكبر سناً.
وقد أورد أبو داود رحمه الله تعالى حديث عقبة بن عمرو الأنصاري البدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله).
قيل: إن المراد بالأقرأ: هو الذي يكون أكثر حفظاً وأخذاً للقرآن، وقيل: هو الذي يكون أحسن قراءة، وفي الحديث الذي سيأتي بعد هذا الحديث: (ثم أعلمهم بالسنة)، والمراد بذلك: سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وبيان الأحكام الشرعية، مثل أحكام الصلاة، والأمور المطلوبة في الصلاة، بحيث يكون على علم بها، ولو حصل له شيء من السهو أو نحوه فإنه يعرف أحكام الصلاة.
وقال بعض أهل العلم: إن قوله: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) لا يكون المقصود من ذلك من يكون أكثر حفظاً وإن كان لا يعلم شيئاً من السنة، ولا يعرف شيئاً من الأحكام، حيث إن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا يُعنون بكتاب الله عز وجل حفظاً وتدبراً وتأملاً وفقهاً وتعلماً وتعليماً، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عثمان بن عفان كما في البخاري أنه قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).
وجاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (كنا إذا تعلمنا عشر آيات من القرآن لم نتجاوزهن حتى نتعلم معانيهن والعمل بهن، فتعلمنا العلم والعمل جميعاً).
ومعنى هذا: أنهم كانوا يُعنون بمعرفة القرآن وما اشتمل عليه القرآن، وكذلك أيضاً العلم بالسنة وبأحكام الشريعة، بل كانوا رضي الله عنهم وأرضاهم يتناوبون في رعاية الإبل وفي العمل في بساتينهم، كما كان يتناوب عمر رضي الله عنه وجاره الأنصاري، وكما جاء عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه أنه قال: (كنا نتناوب رعاية الإبل)، فالذين لا يذهبون لرعي الإبل يكونون في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء الغائب فإنهم يعلمونه ما تعلموه من النبي صلى الله عليه وسلم.
فكانوا يهتمون بالقرآن وبالسنة وبالفقه في الدين، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) وعلى هذا: فإن السنة وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا التفصيل، فيقدم الأقرأ إذا كان عالماً بالسنة، وعنده علم بأحكام الصلاة، وأما إذا لم يكن عنده علم بالأحكام وإنما كان مجرد قارئ أو حافظ وليس متمكناً ولا عالماً بأحكام الصلاة، وليس عنده الفقه والعلم، فمن كان عنده شيء من القرآن ولكن عنده الفقه في السنة والعلم بالأحكام الشرعية وبأحكام الصلاة بالذات يقدم على غيره، ولهذا قال بعض أهل العلم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر رضي الله عنه مع أن المشهور أن أقرأ الصحابة هو أبي بن كعب؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كلهم كانوا يُعنون بالقراءة وبفهم القرآن وبالعلم بالسنة، فكان أبو بكر رضي الله عنه هو المقدم على غيره في ذلك، وإن كان بعض الصحابة قد اشتهر بالقراءة كـ أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه.
ومنهم من قال: إن تقديم النبي صلى الله عليه وسلم إياه فيه إشارة إلى خلافته، وإلى أنه الأحق بالأمر من بعده؛ ولهذا ذكر ذلك عمر رضي الله عنه يوم السقيفة حيث قال: (رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر ديننا أفلا نرتضيك لأمر دنيانا؟!) وعلى هذا: فإن الأحق هو الأقرأ إذا كان عنده علم بالسنة وبأحكام الصلاة وبالفقه، ولكنه إذا كان مجرد حافظ وليس عنده علم بالسنة فإن من يكون أقل منه حفظاً وجمعاً للقرآن وهو عالم بالسنة يكون مقدماًً على ذلك الذي هو مجرد حافظ وليس عنده فقه في الدين ولا معرفة بالسنن.
قوله: [(يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله وأقدمهم قراءة)].
كلمة: (أقدمهم قراءة) هذه جاءت في بعض الروايات، ولكن الذي جاء في بعضها: (أقدمهم هجرة)، وهذا إنما يكون بعد الدرجة الثانية التي هي العلم بالسنة كما جاء ذلك مبيناً في الحديث الذي سيأتي، وهو أيضاً في صحيح مسلم، فإنه ذكر الترتيب على هذا الوجه العلم بالقراءة، ثم بالسنة، ثم الأقدم هجرة، ثم الأكبر سناً.
وكذلك أورده أبو داود بعد ذلك، فتكون القراءة أولاً، ثم السنة ثانياً، ثم الهجرة ثالثاً، ثم التقدم في السن رابعاً.
قوله: [(فإن كانوا في القراءة سواء فليؤمهم أقدمهم هجرة)].
وهنا لم يذكر العلم بالسنة، ولعل سبب عدم ذكره: أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا يرون أن الاشتغال بالقرآن يكون معه الاشتغال بالسنة، وأنهم كانوا يعنون بالقرآن وبالسنة، وأنهم كانوا لا يتجاوزن العشر الآيات من القرآن إلا بعد أن يتعلموا معانيهن والعمل بهن، فليسوا مجرد قراء يحفظون دون أن يكونوا متفقهين، ودون أن يكونوا فاهمين، ودون أن يكون عندهم علم بالأحكام الشرعية، بل كانوا يحفظون ويتفقهون في الدين، ويعرفون ما تقتضيه الآيات وما جاءت به السنن مما هو تفسير للآيات وبيان لها؛ لأن السنة تفسر القرآن وتبّينه، وتدل عليه وتوضحه.
فهذا سبب عدم ذكر السنة، مع أنه قد جاء في الرواية التي بعدها، وقد يكون عدم ذكر السنة حصل من بعض الرواة.
قوله: [(فإن كانوا في القراءة سواء فليؤمهم أقدمهم هجرة)].
أي: من كان أسبق في الهجرة والانتقال من بلد الشرك إلى بلاد الإسلام فإنه يكون مقدماً على غيره؛ وذلك لسبقه ولهذا كان المهاجرون رضي الله عنهم وأرضاهم لهم ميزة على غيرهم من الأنصار؛ لأنهم جمعوا بين الهجرة والنصرة، فالأنصار عندهم النصرة فقط وليس عندهم الهجرة، فإذا كانوا مهاجرين فيكون أقدمهم هجرة هو المقدم على غيره في الأحقية بإمامة الناس في الصلاة، فإن كانوا في الهجرة سواء فيقدم أكبرهم سناً، وذلك لاحترام الكبير وتوقيره ما دام أنه مساوٍ لغيره في الأمور السابقة، وإنما حصل تفضيله لأجل السن، حيث يقدم الأكبر، ومعلوم أن تقديم الكبير قد جاءت فيه نصوص كثيرة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول للصغير الذي يريد أن يتحدث قبل الكبير: (كبّر)، يعني: دع الكبير يتكلم قبلك.
قوله: [(ولا يؤم الرجل في بيته)].
إذا كان الرجل في منزله فهو أحق وأولى بالإمامة من غيره إذا كان عنده علم بأحكام الصلاة، وعنده حفظ شيء من القرآن، ويستطيع أن يؤم الناس ويقرأ القراءة السليمة، فما دام في بيته فهو المقدم، ولكنه إذا قدم غيره فله ذلك، ولا يلزم أن يكون هو الذي يصلي بالناس، ولكن الأحقية هي له.
قوله: [(ولا في سلطانه)].
يعني: أن الوالي هو الذي يكون الأحق بالإمامة، فهو أحق من غيره حيث يكون أهلاً لذلك، وحيث يكون متمكناً من الإمامة فإنه يكون أولى من غيره ما دام أنه هو السلطان؛ ولهذا كان الولاة هم الذين يتولون الصلاة في الجُمع والجماعات، وكذلك في الأعياد كانوا يؤمون الناس، والأمراء كانوا يتقدمون الناس ويصلون بهم، وقد جاء في الأحاديث ما يتعلق بالصلاة وراء الأمراء، فالوالي هو المقدم على غيره وهو الأحق.
قوله: [(ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه)].
التكرمة: مكان الرجل الذي قد هيأه للجلوس، أو الفراش الذي فُرش، فهو الأحق في وضع الناس بها وإجلاس الناس عليها، فما كل إنسان يأتي ويختار له مكاناً دون أن يكون الرجوع في ذلك إلى صاحب المكان؛ لأنه قد يكون هناك أماكن يريد أن يخص بها بعض الناس، وهذا حقه، فله أن يُقدّم وله أن يؤخر من شاء، فلا يجلس على تكرمته إلا بإذنه؛ لكيلا تكون الأمور فوضى، إلا إذا قال له صاحب البيت: تفضل اجلس في هذا المكان.
فإنه يأتي ويجلس في المكان الذي يجلسه فيه.
قوله: [قال شعبة فقلت لـ إسماعيل: ما تكرمته؟ قال: فراشه].
التكرمة هي الفراش الذي يتخذه شيئاً ليكرم به من يريد، ويخص به من يخص، والله أعلم.