قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الجمع في المسجد مرتين.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب عن سليمان الأسود عن أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر رجلاً يصلى وحده فقال: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه؟)].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى هذه الترجمة بعنوان: [باب في الجمع في المسجد مرتين]، والمقصود من هذه الترجمة: أن تكرر الجماعة في المسجد سائغ إذا لم يكن المقصود من الجماعة الثانية أن تتأخر عن الجماعة الأولى، وأنها لا تصلي معها بل تصلي وحدها.
أما إذا أرادت ذلك فهذا لا يجوز، وعلى هذا فالجمع في المسجد مرتين أو إقامة جماعتين في المسجد سائغ إن كانت الجماعة الثانية جاءت من غير قصد، وإنما كان السبب هو فوات الصلاة، وأن الذين جاءوا متأخرين سبقوا في الصلاة، فإذا جاءوا وقد سلم الإمام فلهم أن يصلوا جماعة ثانية في المسجد، وإذا كانت الجماعة الثانية لا تريد أن تصلي مع الجماعة الأولى بل تريد أن تصلي وحدها؛ فهي تتأخر عن الصلاة لكي تقيم جماعة ثانية فهذا لا يجوز؛ لما فيه التفرق والاختلاف وعدم الاجتماع.
وقد كانت من حسنات الملك عبد العزيز رحمة الله عليه: أنه لما تولى على الحجاز، وكانت مكة يُصلى فيها أربع جماعات: الحنفية يصلون على حدة، والمالكية على حدة، والشافعية على حدة، والحنابلة على حدة، ولكل مقام حول الكعبة، فيقال: هذا مقام الحنفي، وهذا مقام الشافعي، وهذا مقام الحنبلي، وهذا مقام المالكي، وتقام هذه الجماعة والذين يتبعون المذهب الآخر لا يصلون معها، وإنما ينتظرون جماعتهم، وهكذا، فكان من أعظم حسنات الملك عبد العزيز رحمه الله أنه أنهى هذا التفرق، وجمع الناس على إمام واحد، فالجماعة المذمومة هي التي قصدها التفرق وعدم صلاة بعضهم وراء بعض، ومن المعلوم أن التفرق غير سائغ، ولو كان الأئمة الأربعة موجودين في زمن واحد لصلى واحد منهم إماماً والباقون مأمومين، وليس كل واحد يصلي وحده.
فإذاً: هذا العمل الذي كان يحصل من بعض الأتباع من التفرق، وعدم صلاة بعضهم وراء بعض هو من التفرق المذموم الغير جائز، وعلى هذا فإن كانت الجماعة الثانية مقصودها أنها لا تريد أن تصلي مع الجماعة الأولى فهذا لا يجوز، وإن كان الذين جاءوا للصلاة كانوا يريدون الجماعة الأولى ولكنهم سبقوا وفاتتهم الصلاة فلهم أن يصلوا جماعة ثانية، وهذا هو الذي ترجم له أبو داود، ومراده: إقامة الجماعة الثانية التي يسوغ إقامتها، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صلاة الرجل مع الرجل خير من صلاته وحده، وصلاة الثلاثة أفضل، وكلما كان أكثر فهو أحب إلى الله عزوجل) فكلما كانت الجماعة أكثر فهو أفضل، وعموم ذلك يدل على جواز إيجاد الجماعة الثانية إذا لم يكن مقصودها عدم الصلاة مع الجماعة الأولى.
وقد أورد الإمام أبو داود رحمه الله حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر رجلاً يصلي وحده -يعني: بعد ما صلى الناس- فقال: من يتصدق على هذا فيصلي معه؟) يعني: من يتصدق عليه فيصلي معه فيحصل له أجر الجماعة بوجود ذلك الذي صلى معه؟ وسمى ذلك صدقة؛ لأن فيه إحساناً إليه، وزيادة في ثوابه وأجره؛ لأن صلاته في الجماعة أعظم من صلاته لو صلى وحده.
إذاً في إيجاد الجماعة بالصلاة معه صدقة عليه، وإحسان إليه بكونه يضاعف أجره، ويزيد ثوابه.
وقوله: (إن الرسول صلى الله عليه وسلم أبصر رجلاً يصلي وحده) يفهم من هذا أنه بدأ بالصلاة، ودل هذا على أن الجماعة يمكن أن توجد ولو لم تكن من أولها، بل يمكن أنه بعد الدخول فيها تكون الجماعة، فكون واحد يصلي ثم يأتي إنسان ويدخل معه ويصلي معه جماعة لا بأس بذلك، وهذا الحديث يدل على هذا، ويدل عليه أيضاً فعل ابن عباس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نام عند خالته ميمونة وقام النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ ودخل في الصلاة، فقام ابن عباس وتوضأ وجاء وصلى عن يساره فأداره عن يمينه، فالرسول صلى الله عليه وسلم ابتدأ الصلاة وهو وحده، ثم دخل معه ابن عباس فصارت جماعة، فهذا يدلنا على أنه لا يلزم أن الجماعة لا تكون إلا من بدايتها، وأنها من أولها، بل يمكن أن تكون بعد بدايتها كما يرشد إلى ذلك هذا الحديث، وكما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس في صلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم في الليل في بيت خالته ميمونة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وأرضاها.
وفي الحديث أيضاً: أن أقل الجماعة اثنان؛ لأنه قال: (من يتصدق على هذا فيصلي معه) فيدل هذا على أن الجماعة أقلها اثنان؛ لأن صلاة رجل واحد مع واحد تكون جماعة.
وأقل الجماعة اثنان عند الفقهاء، كما أن أقل الجمع عند الفرضيين اثنان أيضاً، والله عز وجل يقول: {فإن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء:11]، وأقل عدد يحجب الأم من الثلث إلى السدس هو اثنان، ولا يلزم أن يكونوا ثلاثة، بل إذا وجد اثنان حجباها، وأقل الجمع في الفقه وفي الصلاة اثنان: إمام ومأموم، وهذا الحديث يدل على ذلك؛ لأنه قال: (من يتصدق على هذا فيصلي معه).
والحديث فيه دليل على ما ترجم له المصنف من أنه يمكن أن تقام جماعة إذا كان ليس مقصوداً الاختلاف، وتبويب أبي داود رحمه الله على ذلك واستشهاده بالحديث يبين أنه يرى أن الجماعة يمكن أن تقام مرتين في مسجد واحد؛ لأنه ترجم وأورد الحديث الدال على الترجمة، فبعض أهل العلم قال: إنه إذا انتهت الجماعة فإن كل واحد يصلي وحده ولا يصلون جماعة، وهذا الحديث حجة عليهم، وكذلك الحديث الآخر الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام: (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاة الثلاثة أزكى من صلاة الاثنين، وكلما كان أكثر فهو أحب إلى الله عز وجل).
وهذا الحديث الذي هنا واضح الدلالة على جواز إقامة جماعة ثانية فيما إذا كان الذين حضروا للصلاة قد فاتتهم الصلاة وسبقوا بها، فلهم أن يجمعوا، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى إقامة الجماعة ولو عن طريق التصدق؛ فإن هذا يدل على أنه إذا لم تكن هناك حاجة إلى الصدقة فإن الجماعة سائغة، فلو جاء اثنان لا يقال لكل واحد: صل على حدة وأنت صل على حدة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشد أن يحسن إلى من كان واحداً فإذا جاء اثنان وصليا مع بعض فليسا بحاجة إلى صدقة.
فهذا الحديث واضح الدلالة على جواز إقامة الجماعة الثانية في المسجد، لكن كما قلت: إذا لم يكن مقصود ذلك هو التخلف عن الجماعة الأولى، وإنما كان الذين جاءوا حريصين على الصلاة، ولكن فاتتهم الصلاة وسبقوا بها فلهم أن يقيموا جماعة ثانية، وأن يصلوا جماعة ثانية، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى إيجاد الجماعة ولو عن طريق الصدقة فكيف لا يسوغ لمن كانوا جماعة فاتتهم الصلاة أن يصلوا جماعة ويرشدون إلى أن كل واحد يصلي على حدة؟! وفي الحديث: جواز صلاة المتنفل خلف المفترض؛ لأن ذاك الذي يصلي مفترض، وهذا الذي يصلي معه ويتصدق عليه متنفل، ويجوز أن يكون المتنفل هو الإمام، ويجوز أن يكون المفترض هو الإمام؛ لأن صلاة المفترض خلف المتنفل جاءت السنة بها، وصلاة المتنفل خلف المفترض جاءت السنة بها، فصلاة المفترض خلف المتنفل يدل عليها هذا الحديث، ويدل عليها حديث الرجلين اللذين كانا في مسجد الخيف بعد صلاة الصبح، وكانا قد صليا في رحالهما وجاءا فجلسا في المسجد، وفيه صلاة المتنفل خلف المفترض، وأما صلاة المفترض خلف المتنفل فيدل عليها فعل معاذ الذي كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء في المسجد النبوي، ثم يذهب إلى قومه ويصلي تلك الصلاة، فهو إمام وهم مأمومون، فتصح صلاة المفترض خلف المتنفل، وصلاة المتنفل خلف المفترض.