قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا النفيلي حدثنا أبو المليح حدثني يزيد بن يزيد حدثني يزيد بن الأصم قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد هممت أن آمر فتيتي فيجمعوا حزماً من حطب، ثم آتي قوماً يصلون في بيوتهم ليست بهم علة فأحرقها عليهم.
قلت لـ يزيد بن الأصم: يا أبا عوف! الجمعة عنى أو غيرها؟ قال: صمتا أذناي إن لم أكن سمعت أبا هريرة يأثره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكر جمعة ولا غيرها)].
ما زال الكلام على بعض الأحاديث المتعلقة بالترجمة، وهي: (التشديد في ترك الجماعة)، والتي مقتضاها ومؤداها أن صلاة الجماعة واجبة، وأن من تركها أو من لم يقم بهذا الواجب فإنه آثم ويستحق العقوبة.
وقد مر حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي فيه: أن النبي عليه الصلاة والسلام هم بأن يأمر رجلاً فيؤم الناس، ثم يأمر بحطب فيحطب، ثم يأمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم يخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فيحرق عليهم بيوتهم بالنار، وجرمهم الذي استحقوا به هذه العقوبة هو أنهم لا يشهدون الصلاة جماعة، وهذا يدلنا على وجوب صلاة الجماعة.
ومما يدل على وجوبها أن الله عز وجل أمر نبيه بأن يصلي بالناس صلاة الخوف جماعة، وجاء عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بصفات متعددة، وإذا كانت الجماعة لم تترك في حال الخوف فهذا يدلنا على وجوبها.
ثم إن كون النبي صلى الله عليه وسلم همَّ بتحريق من تخلف يدل على وجوبها.
وأيضاً: كون النبي صلى الله عليه وسلم جاءه ابن أم مكتوم وكان أعمى، وطلب منه أن يأذن له أن يصلي في بيته؛ لأن له قائداً لا يلائمه في المجيء إلى المسجد، فقال له عليه الصلاة والسلام: (هل تسمع النداء؟ قال: نعم.
قال: فأجب)، وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام لم يرخص لرجل أعمى فهذا يدلنا على وجوب صلاة الجماعة.
والحاصل أنه قد وردت أدلة متعددة تدل على وجوب الجماعة.
ومن العلماء من قال: إنها شرط.
ومعنى هذا أن الإنسان لو صلى منفرداً لم تصح صلاته، ولكن هذا غير صحيح؛ لأنه قد جاء ما يدل على أن صلاته صحيحة، ولكن فاته خير كثير، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) أو (بخمسة وعشرين جزءاً)، فهذا يدلنا على أن صلاته صحيحة، ولكن الذي لم يصل جماعة ترك أمراً واجباً عليه، فيأثم لهذا الترك، ولهذا فإن أبا داود رحمه الله عقد الترجمة بقوله: [التشديد في ترك الجماعة] يعني أن الأمر ليس بالهين، وأن الأمر خطير وعظيم، وصلاة الجماعة شأنها عظيم، وقد وردت فيها نصوص متعددة تدل على وجوبها.
وأورد أبو داود رحمه الله حديث أبي هريرة من طريق أخرى، وفيه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: [(لقد هممت أن آمر فتيتي فيجمعوا حزماً من حطب ثم آتي قوماً يصلون في بيوتهم ليست بهم علة)] يعني أنهم يتخلفون في بيوتهم ويصلون في بيوتهم، ولم يكن هناك مرض يمنعهم، ولم يكن هناك علة تعيقهم يكونون غير متمكنين بسببها من أن يأتوا إلى المساجد.
وهذا الحديث يدل على ما دلت عليه الطريق السابقة التي فيها همُّ الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي هذه الطريق زيادة أن ذلك من غير علة، ومن المعلوم أن هذه الزيادة ومقتضاها لا شك فيه، سواءٌ أتت أو لم تأت؛ لأن المكلف هو الذي يقدر، وأما من كان عاجزاً فمعذور؛ لقول الله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، لكن هذا الحديث فيه زيادة إيضاح وبيان أن تخلفهم لم يكن لعذر، وإنما كان كسلاً وخمولاً، وعدم إقدام على هذه الصلاة التي فيها الخير العظيم وفيها الثواب الجزيل، وفي التخلف عنها وفي تركها الإثم، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على خطورة ذلك وأنه ليس بالأمر الهين.
وقد قال أحد الرواة لـ يزيد بن الأصم: هل عنى الجمعة أو غير الجمعة؟ فقال: إن الذي سمعته من أبي هريرة هو هذا اللفظ، ولم يذكر جمعة ولا غيرها، ولكن عمومه ولفظه يقتضي أن الجمعة وغير الجمعة يجب الإتيان إليها، ويجب حضورها وشهودها، وأن الأمر ليس خاصاً بصلاة دون صلاة، بل الجمع والجماعات كلها يجب حضورها ويجب الذهاب إليها.
ولما سأله قال: [صمتا أذناي إن لم أكن سمعت أبا هريرة يأثر ذلك عن رسول الله عليه الصلاة والسلام] يعني: يروي ذلك، وهذا يفيد التأكد من السماع، وأنه متحقق من السماع، وأنه سمعه بهذا اللفظ المطلق الذي لا يختص بجمعة ولا بغير جمعة، وإنما يشمل الصلوات كلها جمعة وجماعة.
وقوله: [(صمتا أذناي)] الأصل أن يقال: صمت أذناي، فيكون الفاعل اسماً ظاهراً، وهنا وقع الجمع بين الاسم الظاهر وبين الضمير، قالوا: وهذا من قبيل ما جاء في القرآن من قول الله عز وجل: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء:3]، ففيه الجمع بين الضمير وبين الاسم الظاهر؛ لأن في قوله: ((وَأَسَرُّوا)) ضمير، وفي قوله: ((الَّذِينَ ظَلَمُوا)) اسم ظاهر مؤداهما واحد ومقصودهما واحد، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار)، ففيه الجمع بين الضمير وبين الاسم الظاهر، وهذه هي اللغة المشهورة بقول القائل: (أكلوني البراغيث).
فإن فيها الجمع بين الاسم الظاهر وبين الضمير.