قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في الرؤيا: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن زفر بن صعصعة عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كان إذا انصرف من صلاة الغداة يقول: هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا؟ ويقول: إنه ليس يبقى بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة)].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في الرؤيا].
والرؤيا: هي بعض ما يحصل في المنام، لأن الذي يحصل في المنام رؤيا وحلم، والحلم هو من تلاعب الشيطان بالإنسان، وهو الذي يقال له: أضغاث أحلام، والرؤيا هي التي تدل وتشير إلى شيء وتعبر، بخلاف الحلم فإنه لا يعبر.
والرؤيا التي يراها النائم في منامه منها ما يكون تأويلها مطابقاً للمرئي في المنام، ومنها ما يكون على ضرب المثال، وقد جاء في القرآن رؤيا الفتيين اللذين كانا مع يوسف عليه الصلاة والسلام في السجن، واللذين طلبا منه أن يعبر لهما الرؤيا، وكانت النتيجة أن أحدهما كانت رؤياه مطابقة لما حصل له في اليقظة، والثانية على صورة المثال، فالذي رأى في المنام أنه يعصر خمراً فقد كان في اليقظة يعصر خمراً، وتأويل رؤياه كانت مطابقة للمرئي، وأما الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزاً تأكل الطير منه، فإنما يقتل ويصلب وتأتي الطير وتأكل من رأسه بعد صلبه وقتله، وتأويل رؤيا هذا ليست مطابقة للمرئي، وإنما هي على صورة التمثيل.
أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من صلاة الغداة قال: [(هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا؟)] يعني: ليعبرها له، وإنما كان يقول ذلك صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الغداة؛ لأن الإنسان حديث عهد بالرؤيا، فيستطيع أن يأتي بها دون أن ينساها، أو يحصل عنده عدم إدراك لها، بخلاف ما إذا مضى عليها وقت فقد يحصل شيء من النسيان لشيء منها؛ ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يفعل ذلك، لكن هذا لا يعني أنه كان دائماً وأبداً يسأل وأن هذا ديدنه، وأنه كلما سلم من صلاة فإنه كان يفعل ذلك، ولكن معنى هذا بيان أن هذا من شأنه وأن هذا من عادته، وإن لم يكن ذلك دائماً وأبداً.
ومن المعلوم أنه إذا قال للناس في بعض الأحيان: من رأى منكم رؤيا، فإن الإنسان عندما يرى رؤيا فإنه يرجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويطلب منه تأويلها وتفسيرها، ولكن لا يدل لفظ (كان) هنا على الدوام والاستمرار، وأنه لا يتركه أبداً.
قوله: [(إنه ليس يبقى بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة)] ليس معنى ذلك أن النبوة باقية، فالنبوة وصف له صلى الله عليه وسلم، والوحي انقطع بوفاته عليه الصلاة والسلام، ولا ينزل وحي على أحد من الناس بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لأن الوحي الذي هو شرع الله والذي جاء به رسول الله والذي هو دين الإسلام قد اكتمل واستقر قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] فليس هناك تشريع يأتي بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإنما كل ما يعول عليه الرجوع إلى ما جاء في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فقوله: [(إنه ليس يبقى بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة)].
يعني: أن أمور الغيب لا تعرف إلا عن طريق النبوة، ولكن الرؤيا الصالحة هي من الأمور التي يمكن أن يعرف بها شيء مغيب مستقبل يراه المرء فتعبر رؤياه ثم تقع طبقاً لما رآه الرائي.
فإذاً: هذه الرؤيا ليست هي من النبوة ولا جزءاً من النبوة؛ لأن النبوة هي ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وتلقي عنه قبل وفاته صلى الله عليه وسلم، وإلا فإنه ليس هناك أحكام شرعية تؤخذ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما المقصود من ذلك أنه كما أن الرسول عليه الصلاة والسلام يخبر عن أمور مستقبلة بالوحي، فإنه بقي من الأمور التي هي من هذا النوع ما يمكن أن يحصل عن طريق الرؤيا، يعني: أنه سيحصل شيء في المستقبل بسبب هذه الرؤيا، فهذا وجه قوله: [(إنه ليس يبقى بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة)] يعني: المبشرات أو هذه الأمور التي ترى في المنام، وليس معنى ذلك أن النبوة باقية وأن الوحي مستمر.