قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في النهي عن الغناء.
حدثنا مسدد حدثنا بشر عن خالد بن ذكوان عن الربيع بنت معوذ بن عفراء رضي الله عنها قالت: (جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل علي صبيحة بُني بي، فجلس على فراشي كمجلسك مني، فجعلت جويريات يضربن بدف لهن، ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر، إلى أن قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في الغد، فقال: دعي هذه وقولي الذي كنت تقولين)].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى هذه الترجمة بعنوان: باب في النهي عن الغناء، والأحاديث التي أوردها ليس فيها نهي، وإنما فيها ذكر الغناء فقط، وليس فيها ذكر تحريمه أو النهي عنه، وسيأتي في الباب الذي بعده ما يدل على كراهية الغناء كما تدل عليه هذه الترجمة، وعلى هذا فإن ذكر النهي هنا غير مستقيم، ولعل الترجمة ليس فيها ذكر النهي؛ لأن الحديثين اللذين أوردهما لا نهي فيهما، وإنما فيهما إخبار فقط عن حصول الغناء.
وقد أورد أبو داود حديث الربيع بنت معوذ رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها صبيحة بُني بها وعندها جوارٍ يضربن بالدف ويغنين ويندبن ما حصل لآبائها يوم بدر، وفيه قولهن: وفينا نبي يعلم ما في غد، فالرسول صلى الله عليه وسلم أنكر عليهن هذه الكلمة، وأقرهن على ما حصل منهن، وهذا يدل على أن الضرب بالدف في الأعراس من النساء سائغ ومشروع، وقد جاء ذلك في أحاديث عديدة ومنها هذا الحديث.
وفي هذا الحديث أنه إذا حصل غناء فيه مثل هذا الكلام الذي ليس فيه محذور وهو خاص بالنساء ولا يتعداهن إلى الرجال؛ فإنه لا بأس به، لكن لا يكون على طريقة الإطراب، وإنما على طريقة ذكر شيء من النشيد الذي فيه معانٍ جميلة، ولكن يكون خاصاً بالنساء، والنبي صلى الله عليه وسلم أنكر المنكر وأقر ما سوى ذلك، والمنكر هو قولهن أو قول إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غد؛ لأن هذا مما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان:34].
وهذا يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب على الإطلاق؛ لأن الغيب على الإطلاق لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65]، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أمره الله عز وجل أن يقول: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام:50]، وقال: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف:188]، فهذا يبين أن علم الغيب على الإطلاق من خصائص الله، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه، وقد أطلعه على كثير من الغيوب، ولكنه لم يطلعه على كل غيب.