قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في كراهية الرفعة في الأمور.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ثابت عن أنس: (كانت العضباء لا تسبق فجاء أعرابي على قعود له فسابقها فسبقها الأعرابي، فكأن ذلك شق على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: حق على الله عز وجل ألا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب في كراهية الرفعة في الأمور]، يعني: في الأمور الدنيوية، وأما الأمور الأخروية فالرفعة فيها مطلوبة، والاشتغال والمنافسة فيها مطلوبة، فالرفعة في أمور الدنيا ليست هي المعتبرة، وإنما المعتبر هو الرفعة في أمور الآخرة؛ ولهذا الإنسان ينظر إلى من هو دونه ولا ينظر إلى من هو فوقه في أمور الدنيا؛ لأنه لو نظر إلى من فوقه فسيحصل منه ازدراء لنعمه الله عليه، وعدم الاعتراف بفضل الله عز وجل عليه، ولكنه إذا رأى نفسه في خير وأن هناك من هم دونه وما حصلوا الذي حصل فإنه يعرف قدر نعمة الله عليه، وأما بالنسبة لأمور الآخرة فلا بد فيها من المنافسة، ولا بد فيها من الجد والاجتهاد، ولا بد فيها من بذل الوسع، وهذا أمر مطلوب لكن على وجه لا يحصل معه ملل أو انقطاع، وإلا فإن المنافسة والمسابقة في الخير من الأمور المطلوبة، وكلما ارتقى الإنسان من حال إلى حال أحسن فإن هذا مطلوب، والإنسان يتحول من السيئ إلى الحسن، ومن الحسن إلى الأحسن؛ ولهذا قالوا في الحج المبرور: إن علامة الحج المبرور أن الإنسان إذا نظر إلى حاله قبل الحج وحاله بعد الحج يرى أنه تحول من حال سيئة إلى حال حسنة، ومن حال حسنة إلى حال أحسن، فهذه علامة بر الحج، فأمور الآخرة لا بد فيها من طلب أعالي الأمور ومن المنافسة، ولا بد فيها من المسابقة في الخيرات، وهذا أمر مطلوب جاءت به نصوص الكتاب والسنة، وأما أمور الدنيا فالرفعة فيها تكون وقتية وتنتهي؛ ولهذا جاء في الحديث: (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) يعني: لا ينفع صاحب الحظ حظه عندك، وإنما ينفعه العمل الصالح، فكرهت الرفعة في الأمور الدنيوية؛ لأن الرفعة فيها يعقبها زوال أو هبوط ونزول، فصاحب الجاه قد يكون جاهه مؤقتاً ما دام في وظيفته وفي مسئوليته، ولكنه إذا ذهب عن الوظيفة ذهب جاهه معه، أما في أمور الآخرة وفي أمور طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه يكون في جميع الأحول على حال مرضية، وعلى حال مطلوبة، وجاهه يبقى ولا يذهب بذهاب العمل والمنزلة التي حصلها من الدنيا؛ لأن تلك إنما هي من أمور الآخرة، وأمور الآخرة باقية، وأما أمور الدنيا فإنها تنتهي، ويعقبها نزول وهبوط.
وأورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كانت العضباء لا تسبق).
أي: أن ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقال لها: العضباء، وقيل: سميت بذلك بسبب خرم أو قطع في أذنها، وكانت لا تسبق، أي: أنها سباقة.
قوله: [(فجاء أعرابي على قعود)] القعود: هو الجمل المتوسط الذي لم يكبر كثيراً، وإنما من حين صلح أن يركب، قيل: يكون قعوداً إلى أن يبلغ عمره ست سنوات، ثم يقال له: جمل، والقعود لا يكون إلا ذكراً.
قوله: [(فسابقها فسبقها)].
لما سبقها هذا القعود تأثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم سبقت، وسبقها ذلك الأعرابي بقعوده، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (حق على الله عز وجل ألا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه) معناه: إن الدنيا لا بد فيها من الانحطاط، ولا بد فيها من الهبوط، ولا يبقى إلا ما أريد به وجه الله عز وجل، والأعمال الصالحة هي التي تبقى للإنسان، ولهذا جاء في الحديث: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً ومتعلماً) (فحق على الله عز وجل ألا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه) فهذا الذي حصل يحتمل أن المقصود به أن هذه الناقة حصل لها ارتفاع وسبق، ثم غلبت، وهذا الذي غلبها أيضاً سيحصل له أن يُغلب، وهذا شأن أمور الدنيا، بخلاف أمور الآخرة فإنها من ارتفاع إلى ارتفاع، ومن علو إلى ما هو أعلى.