قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الأدب.
باب في الحلم وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم.
[حدثنا مخلد بن خالد الشعيري حدثنا عمر بن يونس حدثنا عكرمة -يعني: ابن عمار - قال: حدثني إسحاق -يعني: ابن عبد الله بن أبي طلحة - قال: قال أنس: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقاً، فأرسلني يوماً لحاجة فقلت: والله! لا أذهب وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قابض بقفاي من ورائي، فنظرت إليه وهو يضحك فقال: يا أنيس اذهب حيث أمرتك، قلت: نعم أنا أذهب يا رسول الله، قال أنس: والله لقد خدمته سبع سنين أو تسع سنين ما علمت قال لشيء صنعت: لم فعلت كذا وكذا؟ ولا لشيء تركت: هلا فعلت كذا وكذا)].
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: كتاب الأدب، والأدب المراد به: الأخلاق المحمودة التي يرغب فيها، والمذمومة التي يحذر منها، وكثير من المؤلفين للكتب الجامعة يجعلون من جملة ما تشتمل عليه كتبهم هذا الكتاب الذي هو كتاب الأدب، والإمام البخاري رحمه الله له كتاب في كتابه الجامع الصحيح باسم كتاب الأدب، وله كتاب مستقل اسمه كتاب الأدب المفرد، وأتى بكلمة المفرد ليميز عن الكتاب الذي في داخل الصحيح، فإذا قيل: أخرجه البخاري في كتاب الأدب بدون التقييد بالمفرد فإنه ينصرف إلى الكتاب الذي هو ضمن الصحيح التي تبلغ كتبه سبعة وتسعين كتاباً، وهو كتاب الأدب، وله كتاب مستقل مؤلف خاص باسم كتاب الأدب المفرد، وهو كتاب مستقل بالتأليف ومفرد عن غيره، وليس داخل كتاب كما هو الشأن في كتاب الأدب الذي هو أحد كتب الجامع الصحيح.
ثم أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة: [باب في الحلم وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم].
الحلم كما هو معلوم هو: ضبط النفس وعدم الغضب، فيكون الإنسان عنده التحمل والصبر بحيث لا يحصل منه الغضب الذي قد يترتب عليه أمور غير محمودة، ولهذا فالحلم محمود، وهو من الخصال المحمودة، ومن الآداب الحميدة.
قوله: [وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم].
هو من عطف العام على الخاص؛ لأن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم يدخل فيها الحلم فهو حليم عليه الصلاة والسلام.
وقد أورد أبو داود في ذلك حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه خدم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد خدمه عشر سنين، وجاء في هذه الرواية سبع أو تسع سنين، والمعتبرة هي رواية التسع، ولا تنافي بينها وبين رواية العشر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كان قدومه إليها في ربيع الأول، وكانت وفاته أيضاً في ربيع الأول عليه الصلاة والسلام، فمدة بقائه في المدينة عشر سنوات صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وفي أثناء السنة التي قدم فيها عرضت أم سليم على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخدمه ابنها أنس رضي الله عنه، فصار خادماً للنبي صلى الله عليه وسلم، وخدمه قريباً من عشر سنوات، فمن قال: تسع سنوات فقد حذف الكسر، ومن قال: عشر سنوات فقد جبر الكسر، أي: أن المدة فوق التسع ودون العشر؛ لأنه لم يستكمل عشر سنوات، فمدة بقاء النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة عشر سنوات من حين قدمها إلى أن توفي صلى الله عليه وسلم، وأنس رضي الله عنه لم يكن خادمه من أول يوم، وإنما بدأت خدمته له بعد فترة من تلك السنة، وعلى هذا فالأمر دائر بين التسع والعشر، فمن قال: عشراً جبر الكسر، ومن قال: تسعاً حذف الكسر.
وقد ذكر أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله في حاجة فقال -يعني في نفسه-: والله لن أفعل، وفي نفسه أنه يريد أن يفعل، وذلك أنه كان صغيراً غير مكلف، فلم يكن قوله ذاك معصية للرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه غير مكلف وكان صغيراً رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ثم أيضاً في القصة ما يشعر بذلك، فقد وجد الصبيان ووقف معهم، وكان قد أرسله النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة فما شعر إلا والرسول صلى الله عليه وسلم آخذ به من ورائه، فالتفت إليه فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا أنيس! اذهب حيث أمرتك)، فذهب رضي الله تعالى عنه، فكونه وجد الصبيان فانشغل بالنظر إليهم والوقوف معهم هذا يوضح الحالة التي كان عليها، وأنه كان صغيراً، وعلى هذا فكونه قال: إنه لا يذهب يدل أن السبب في ذلك هو صغره.
ثم قال أنس: (لقد خدمته سبع سنين أو تسع سنين ما علمت قال لشيء صنعت: لما فعلت كذا وكذا؟ ولا لشيء تركت: هلا فعلت كذا وكذا).
قوله: [(فما علمت قال لشيء فعلته: لما فعلت كذا وكذا؟)] يعني: أنه ما أنكر عليه الفعل، ولا أنكر عليه عدم الفعل بأن قال: (هلا فعلت كذا وكذا)، وهذا من كمال أخلاقه ورفقه ولينه عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وهذا الكلام يقوله من باشر خدمته صلى الله عليه وسلم، وتشرف بخدمته مدةً تبلغ عشر سنوات تقريباً وهو صغير، فكان يخبر عن حاله مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه مع كونه صغيراً وقد يحصل منه أمور لا ترتضى من ناحية أنه قد يتأخر أو قد يحصل منه شيء لا ينبغي، فما كان يعاتبه عليه الصلاة والسلام، وما كان يقول له في أي أمر: لم فعلت كذا وكذا؟ يعني: منكراً عليه، ولا قال لشيء لم يفعله: هلا فعلت كذا وكذا.