قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المسألة في القبر وعذاب القبر.
حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا شعبة عن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن المسلم إذا سئل في القبر فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذلك قول الله عز وجل: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم:27])].
هذه الترجمة معقودة لمسألتين: مسألة السؤال في القبر، ومثل ذلك أيضاً نعيم القبر؛ لأن القبر فيه نعيم وعذاب، ولكن الشيء الذي ورد وتكرر في الأحاديث ذكر عذاب القبر، وكل ذلك حق ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمسألة في القبر هي السؤال عن الرب والدين والنبي محمد صلى الله عليه وسلم، فالسؤال يكون عن هذه الأمور الثلاثة، فالذي يوفقه الله عز وجل يأتي بالجواب السديد، ويأتي بالجواب المنجي، فيقول: إن الله ربه، وإن الإسلام دينه، وإن محمداً صلى الله عليه وسلم نبيه، أو يقول: أشهد أن لا إله الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ومن كان بخلاف ذلك وأدركه الخذلان، أو حصل له العذاب، فإنه يقول: ها ها لا أدري، فلا يجيب بالجواب الذي ينفعه، وإنما يأتي بالجواب الذي يضره.
والسؤال في القبر هو لإظهار عدل الله عز وجل، وكون الإنسان ينعَّم بإحسانه وبإيمانه، ويعذب بمعصيته وعدم إيمانه، وليس ذلك ليعلم الله شيئاً كان غير معلوم له، بل هو عالم قد علم أزلاً كل شيء سبحانه وتعالى، ولكن ليظهر للإنسان عدل الله عز وجل، وأن الإنسان يثاب على إحسانه ويعاقب على إساءته، وأن الإنسان إنما يؤتى من قبل نفسه.
والسؤال في القبر هو مثل مسألة الميزان، فإن ذلك يرجع إلى إظهار عدل الله عز وجل، وأن الإنسان لا يبخس في شيء، فلا ينقص من الحسنات ولا يزاد من السيئات، ولا يعاقب بذنب لم يحصل منه، ويثاب بشيءٍ قد حصل منه وبشيءٍ لم يحصل منه فضلاً من الله عز وجل وإحساناً.
كما أن الله عز وجل ينشئ خلقاً بعدما يدخل أهل الجنة الجنة ويبقى فيها فضلة، ويدخلهم الجنة فضلاً من الله عز وجل، وأما النار فلا يدخلها إلا من يستحقها، فالفضل من الله عز وجل يحصل بسبب وبغير سبب، والسبب الذي حصل والمسبب هو من فضل الله عز وجل أيضاً، لأن الله تعالى وفق للسبب والمسبب، ولو لم يوفق الله الإنسان ما حصل منه السبب الذي يفضي به إلى العاقبة الطيبة وإلى النتائج الطيبة، فالكل يرجع إلى فضل الله عز وجل، فهي من الله ابتداءً وانتهاء، فهو الذي تفضل بحصول السعادة وبحصول النعيم، وهو الذي تفضل بالتوفيق لحصول الأسباب التي تفضي إلى ذلك وهي الأعمال الصالحة.
ويحصل بدون فعل شيء من العبد، بمعنى: أن الله تعالى يخلق أقواماً ما كان لهم وجود من قبل، ثم يدخلهم الجنة ويسكنهم إياها وذلك فضل من الله سبحانه تعالى، وأما النار فلا يعذب بها إلا من عمل أعمالاً توصله إليها سواء كانت كفراً أو معاصي، وقد جاءت الأحاديث في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأورد أبو داود رحمه الله تعالى جملة منها، وأما أحاديث عذاب القبر فهي كثيرة جداً قد بلغت حد التواتر، وجاءت على أحوال متعددة، فمنها ما هو في بيان العذاب، وبعضها في كيفية العذاب، وبعضها في سبب العذاب، وكذلك في التعوذ من عذاب القبر.
أورد أبو داود حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المسلم إذا سئل في القبر فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فذلك قول الله عز وجل: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم:27]).
يعني: أن هذا التثبيت في الآخرة وذلك بأن يثبت عند السؤال، وهو يثبت في الدنيا على سلوك طريق الحق والنجاة، وعلى سلوك الصراط المستقيم، وذلك بإعطاء العبد خير زاد وأفضل زاد يكون في هذه الحياة الدنيا وهو زاد التقوى.
وكل سفر لابد فيه من زاد، فسفر الدنيا يحتاج إلى زاد، وذلك أن الإنسان يحمل ما يحتاج إليه من النقود حتى لا يحتاج إلى الناس، وأما الآخرة فالزاد إليها هو تقوى الله عز وجل والاستقامة على أمره سبحانه.
وقوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [إبراهيم:27].
أي بالتزام الحق في الحياة الدنيا، وبحصول الجواب السديد عندما يسألون في القبر، فيجيب بالأسئلة السديدة التي نتائجها وعواقبها حميدة.
وفي الحديث بيان أن السنة تبين القرآن، فإن هذا الحديث يبين أن هذا هو القول الثابت في الآخرة، وأن الله يثبت المؤمن في الآخرة وذلك بأن يأتي بهذا الجواب السديد، وهذا التثبيت في الآخرة مبني على الثبات في الدنيا على الصراط المستقيم، وعلى سلوك المنهج القويم، وهو الإيمان بالله والالتزام بما جاء عن الله وعن رسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27].