شرح حديث (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الشفاعة.

حدثنا سليمان بن حرب حدثنا بسطام بن حريث عن أشعث الحداني عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)].

وأنكر الشفاعة لأهل الكبائر المعتزلة والخوارج فقالوا: إنهم مخلدون في النار، والأحاديث ترد عليهم.

الشفاعة في الأصل هي: طلب شخص من آخر أن يشفع له في تحصيل خير، وذلك أن الشافع يضم صوته إلى طالب الحق فيكونان شفعاً بعد أن كان الطالب مفرداً، ويكون طلبه قد عزز وأيد وسوعد في الوصول إلى ما يريد.

وهي: طلب الخير للغير، حيث يطلب إنسان من غيره أن يطلب خيراً له، فيفعل.

والشفاعة شفاعتان: شفاعة محمودة، وشفاعة مذمومة.

فالشفاعة المحمودة هي التي تكون في الدنيا بطلب الإنسان فيما يقدر عليه، ليحصل خيراً دنيوياً أو أخروياً.

وفي الآخرة بالطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يشفع في الموقف، أو في الخروج من النار، أو في دخول الجنة، أو في غير ذلك من أنواع الشفاعة، وهي تحصل من النبي صلى الله عليه وسلم وغيره بالنسبة للخروج من النار، وأما بالنسبة لفصل القضاء فهي خاصة به صلى الله عليه وسلم.

وأما الشفاعة المذمومة المحرمة فهي مثل ما يطلبه الكفار من آلهتهم، وما يطلب من غير الله عز وجل مما لا يجوز الطلب منه، كالطلب من الأموات بأن يشفعوا.

والشفاعة لها أنواع عديدة: منها الشفاعة العظمى: وهي من خصائص نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فإنه اختص بها، وذلك أن الناس إذا كانوا في الموقف ماج بعضهم في بعض، فيبحثون عمن يشفع لهم إلى ربهم، ليأتي لفصل القضاء بينهم، فيأتون آدم عليه الصلاة والسلام ثم نوحاً، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، ثم يطلبوها من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

والشفعاء الذين قبل نبينا محمد عليه الصلاة والسلام يعتذرون، وكل واحد يحيلهم إلى من بعده، فإذا وصلت إلى عيسى اعتذر وأحال إلى نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فيتقدم ويشفع، ويشفعه الله عز وجل، ويأتي لفصل القضاء بين عباده ويحاسب الناس، ويذهبون إلى منازلهم من الجنة أو النار.

وهذه الشفاعة العظمى، وهي المقام المحمود، وهي عامة للبشر كلهم من أولهم إلى آخرهم، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الدال عليها: (أنا سيد الناس يوم القيامة)، ثم بين السبب في ذلك وذكر هذه الشفاعة.

وإنما كان سيدهم وخص يوم القيامة بذكر السيادة؛ لأنه يظهر في ذلك اليوم سؤدده على الجميع، حيث يشفع للجميع، ويستفيد الجميع من شفاعته من لدن آدم إلى الذين قامت عليهم الساعة، ولهذا يقال لها المقام المحمود؛ لأنه مقام يحمده عليه الأولون والآخرون، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

وأيضاً من شفاعاته صلى الله عليه وسلم التي اختص بها: شفاعته في عمه أبي طالب في أن يخفف عنه العذاب، فصار أخف أهل النار عذاباً، وهو يرى أنه ليس هناك أحد أشد منه، وذلك أنه خفف عنه العذاب فكان في ضحضاح من نار، أو له نعلان من نار يغلي منهما دماغه.

فالنبي صلى الله عليه وسلم شفع له فخفف عنه العذاب فصار في ضحضاح من نار، ولولا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لكان في الدرك الأسفل من النار مع الكفار الذين هم أمثاله.

وقد قال الله عز وجل: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48] أي: الكفار، وهذا الحديث يدل على حصول النفع لـ أبي طالب، ولكن هذه شفاعة خاصة تستثنى من هذا النفي في قوله: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48].

ثم إن النفع الذي استثنى من هذه الآية إنما هو في التخفيف، وأما الإخراج فإنها باقية على عمومها فلا يخرج كافر من النار ويدخل الجنة، بل الكفار باقون في النار أبد الآباد، ولكنها نفعت في التخفيف.

فإذاً يكون الجمع بين ما ورد في القرآن من قوله: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48] وبين ما جاء من شفاعته لـ أبي طالب أن هذه شفاعة خاصة أخرجت من ذلك العام، ولكن بالنسبة للتخفيف وليس للإخراج.

والأوضح أن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي طالب تكون مخصصة لقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر:36]، فإن هذه دالة على أن الكفار لا يخفف عنهم من عذابها، وقد جاءت شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أبي طالب ودلت على حصول التخفيف، وتكون تلك الآية عامة وهذا الحديث مخصصاً.

ثم إن هناك شفاعة ثالثة: وهي الشفاعة بالخروج من النار لمن دخلها من المؤمنين: وهذه تكون من النبي صلى الله عليه وسلم ومن غيره، وليست خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن قد أعطي كل نبي دعوة مستجابة كما جاء في الحديث، وكل نبي دعا بها، وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ادخرها لتكون شفاعة لأمته يوم القيامة، وذلك بالإخراج من النار.

وقد وردت الأحاديث الكثيرة المتواترة في خروج أهل الكبائر من النار، وأنهم يبقون فيها ما شاء الله أن يبقوا، ثم يخرجون بشفاعة الشافعين، ولو شاء الله أن يعفو عنهم فلا يدخلوها فإنهم لا يدخلونها، ولكن من دخلها فإنه لا يخلد فيها وإنما يخرج منها بعد ما يمضي عليه الفترة التي شاء الله أن يمضيها فيها.

وما جاء في بعض الآيات والأحاديث من التخليد لأصحاب الكبائر، مثلما جاء في ذكر الخلود في حق من قتل عمداً، وكذلك الحديث الذي ثبت في الصحيح أن من قتل نفسه بحديدة فإنه يجأ نفسه بتلك الحديدة خالداً مخلدً في نار جهنم أبداً، ومن تردى من شاهق فإنه يكون كذلك في نار جهنم، ومن قتل نفسه بسم فهو يتحسى ذلك السم خالداً مخلداً في جهنم كذلك، فإن ما جاء من ذلك يحمل على الخلود النسبي؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].

فكل ذنب دون الشرك هو تحت مشيئة الله إن شاء عفا عن صاحبه فلم يدخله النار، بل يدخله الجنة من أول وهلة، وإن شاء أدخله النار وعذبه فيها، ولكنه لابد من أن يخرج منها بعد أن يطهر وبعد أن يعذب على الجرم الذي حصل منه، وهو المعصية التي أدخله الله تعالى بها النار.

فهذه هي طريقة أهل السنة والجماعة في أصحاب الكبائر.

وأهل السنة يقولون عن أهل الكبائر: إنهم مؤمنون ناقصو الإيمان، فلا يعطونهم الإيمان الكامل ولا يسلبون عنهم مطلق الإيمان، هذا في الدنيا، وأما في الآخرة فهو ما ذكرناه.

وهناك شفاعة رابعة: وهي الشفاعة لمن استحق النار أن لا يدخلها، وقد ذكر ابن القيم في تعليقه على تهذيب السنن للمنذري أنه لم يجد نصاً يدل على هذه الشفاعة.

وهي معروفة عند أهل العلم يذكرونها من جملة الشفاعات، وقد ذكر بعض أهل العلم دليلاً عليها، وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم على الصراط: (اللهم سلم سلم) فإن هذه شفاعة بأن يسلم من استحق النار من دخولها؛ لأنه إذا لم يسلم فإنه يقع في النار؛ لأن الناس يمرون على الصراط في طريقهم إلى الجنة فمن كان من أهل النار وقع فيها، ومن نجاه الله عز وجل تجاوزها بسرعة أو ببطء على حسب ما جاء في الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وأنه على قدر الأعمال، فمنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالخيل، ومنهم من يزحف زحفاً، وهكذا.

وهناك شفاعة خامسة: وهي الشفاعة في استفتاح الجنة، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم أول الأمم دخولاً إلى الجنة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (وأنا أول شافع وأول مشفع)، فهو أول من يتقدم للشفاعة، وأول من يشفعه الله عز وجل بعد التقدم للشفاعة.

ومن أنواع الشفاعة: الشفاعة في رفع الدرجات في الجنة، من درجة أدنى إلى درجة أعلى.

وقد ذكر الله عز وجل في القرآن أن الذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان فإن الله تعالى يلحق بهم ذريتهم ويرفعهم إلى درجاتهم وإلى منازلهم بحيث يكونون مع من هو أعلى درجة.

وكما في زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنهن يرفعن معه في درجته؛ لأنهن زوجاته في الدنيا والآخرة رضي الله عنهن وأرضاهن.

والحاصل أن من كان في درجة في الجنة أنزل فإن الله تعالى يرفعه إلى درجة أعلى.

فهذه جملة من أنواع الشفاعة التي ذكرها العلماء.

ذكر أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الكبائر من أمته فيخرجون من النار إذا دخلوها، وقد ذكرت أن الأحاديث كثيرة متواترة في ذلك، ومنها الحديث الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لكل نبي دعوة مستجابة دعا بها على قومه، وإنني ادخرت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة).

فقوله صلى الله عليه وسلم هنا في حديث أنس (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) معناه: أنها تحصل لهم يوم القيامة وأنه يشفع.

ومن المعلوم أن الشفاعة تكون بأمرين: بإذن الله للشافع أن يشفع، وبرضاه عن المشفوع، كما قال: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26].

طور بواسطة نورين ميديا © 2015