قال المصنف رحمه الله تعال: [حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا عبد الله بن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وعلقمة بن وقاص، وعبيد الله بن عبد الله عن حديث عائشة رضي الله عنها، وكلٌّ حدثني طائفة من الحديث قالت: ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بأمر يتلى].
أورد أبو داود حديث عائشة، وهو قطعة من حديث طويل في قصة الإفك، فاختصره أبو داود هنا وأشار إلى طوله وإلى كثرته بالرواة الأربعة الذين رووه عن عائشة وأن كل واحد عنده ما ليس عند الآخر، وكلٌّ حدَّث بطائفة منه، ولم يميز الزهري كلام هذا من هذا، ولكن كلهم ثقات، وكلهم خرَّج لهم أصحاب الكتب الستة.
وقد أتى أبو داود بالعبارة التي هي محل الشاهد من ذلك الحديث الطويل، وهو قول عائشة: ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بأمر يتلى؛ لأن قولها: (يتكلم الله) إشارة إلى آيات الإفك التي جاءت في سورة النور، فإنها كلام الله عز وجل.
وعبرت بقولها: (يتكلم الله فيّ) أي بهذا الذي نزل على رسوله صلى الله عليه وسلم من الكلام الذي فيه براءتها، وكانت رضي الله عنها قد قالت: وكنت أتمنى أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه رؤيا يبرئني الله بها، أي: لأن رؤيا الأنبياء وحي.
وقد استعظمت أو استكثرت على نفسها أن الله تعالى يتكلم فيها بكلام يتلى، ولكن نزل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور:11]، إلى آخر العشر الآيات، وإنما كانت ترجو وتتمنى أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه رؤيا يبرئها الله بها، وهذا من تواضعها، كما هو شأن أولياء الله، حيث يحصل لهم الكمال ومع ذلك يتواضعون لله عز وجل، ولهذا فإن ابن القيم رحمه الله في كتابه ((جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام)) ترجم عند ذكر الآل لأزواج الرسول صلى الله عليه وسلم، فترجم لكل واحدة بترجمة مختصرة، وأشار إلى شيء من فضائلها ومناقبها، وكان مما ذكره من ترجمة عائشة أن أشار إلى تواضعها لله عز وجل وأنها قالت هذا الكلام الذي ذكره أبو داود، وقال: أين هذا من بعض الناس يصوم يوماً في الشهر، ثم يقول: أنا كذا وأنا كذا، أو يصلي ركعتين في الليل ويقول: أنا كذا وأنا كذا، يستعظم عمله ويستكثره، وهي تقول هذه المقالة رضي الله عنها لما أكرمها الله عز وجل بنزول براءتها بآيات تتلى من كتاب الله.
فأولياء الله عز وجل أعطاهم الله تعالى الكمال وأعطاهم ما أعطاهم من الرفعة والمنزلة، ولم يزدهم ذلك إلا تواضعاً لله عز وجل، كما قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]، وهم مع إحسانهم ومع ما أكرمهم الله عز وجل به من توفيق إلى الخير يخشون الله عز وجل، ويرون أن ما عملوه من أعمال لا يعتبر شيئاً، كما جاء عن الفاروق رضي الله عنه لما طعن وكان في مرض موته، وجاءه والناس يزورونه، فجاء إليه شاب، وأثنى عليه وقال: هنيئاً لك يا أمير المؤمنين، صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته، وولي أبو بكر من بعده فقمت معه، وكنت سنده وعضده، ثم وليت الخلافة وحصل منك كذا وكذا، ثم شهادة في سبيل الله! فقال عمر رضي الله عنه: وددت أن أنجو كفافاً لا عليَّ ولا لي! ثم إن هذا الغلام لما ولى فإذا ثوبه يمس الأرض، فقال: ردوا عليَّ الغلام، ثم قال له: ارفع ثوبك يا ابن أخي! فإنه أتقى لربك وأنقى لثوبك! فهو على ما فيه من شدة الوجع لم يمنعه ذلك من أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وفي أمرٍ من الأمور التي يقول بعض الناس الذين لم يوفقوا فيما يقولون: إن الشريعة لباب وقشور، وهذا من القشور.
ونحن نقول: كلها لباب وليس فيها قشور، ولكنها متفاوتة، فليست الأحكام واحدة، وليست متساوية، لكن لا يجوز أن يوصف شيء منها بأنه قشور، وتقسيمها إلى لباب وقشور من الكلام السيئ، ومن الكلام القبيح!