أورد أبو داود رحمه الله بعض الأحاديث في رؤية الله عز وجل في الدار الآخرة، فأورد أولاً حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه.
قوله: [كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوساً، فنظر إلى القمر ليلة البدر] يعني: في ليلة من الليالي، وبين ذلك بأنه ليلة أربع عشرة من الشهر، وهي إحدى ليالي الإبدار؛ لأن ليالي الإبدار هي في الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، حيث يكون القمر فيها مستديراً، ويكون ضوءه شديداً، وتستمر الإضاءة أكثر الليل.
قوله: [فقال: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا لا تضامُّون في رؤيته)] معناه: لا تتزاحمون على رؤيته، فلا يلتصق بعضكم ببعض وينضم بعضكم إلى بعض ليراه كل أحد، فإنكم كلكم ترونه، ومما يوضح ذلك ويقربه أن ذلك كما ترون هذا القمر.
وهذا تشبيه للرؤية بالرؤية وليس للمرئي بالمرئي، فليس تشبيهاً لله بالقمر، وإنما هو تشبيه لرؤية الله عز وجل التي تحصل في الآخرة بهذه الرؤية المحققة التي تحصل لكل أحد منكم، فهو من قبيل إثبات الرؤية وتشبيهها بالرؤية، وليس من قبيل تشبيه المرئي بالمرئي.
وفي بعض الروايات: (لا تُضَامُون في رؤيته) أي: لا يحصل الضيم لأحد منكم بأن لا تحصل له الرؤية، فرؤية الله عز وجل حاصلة للجميع في الآخرة كما أن رؤية القمر حاصلة في الدنيا، أي أنه يراه سبحانه وتعالى في الآخرة كل من شاء سبحانه أن يراه.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى عمل من الأعمال الصالحة التي هي من أسباب تحصيل الثواب الجزيل، الذي أعلاه وقمته النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى، فقال: (فإن استطعتم ألا تغلبوا) معناه: إن استطعتم ألا يغلبكم أحد، وذلك بأن تكونوا من السابقين إلى الإتيان بهاتين الصلاتين: صلاة قبل غروب الشمس وصلاة قبل طلوعها، ومقصوده بذلك العصر والفجر، وكل الصلوات مطلوبة، ولكن هاتان الصلاتان نص عليهما لأنه يحصل فيها اجتماع الملائكة، كما ثبت في الصحيح: (يتعاقبون فيكم ملائكة في الليل وملائكة في النهار، ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر) فيشهدهما الملائكة الذين يبدءون والذين ينتهون، فالذين يأتون يحضرون هذه الصلاة، والذين سيصعدون وقد انتهت مهمتهم يحضرون هذه الصلاة، فتجتمع المجموعتان من الملائكة المتعاقبة في هاتين الصلاتين.
ثم إن هاتين الصلاتين جاء التنصيص عليهما؛ لأن الفجر تكون في آخر الليل، عندما يكون الناس قد طاب لهم الفراش، ولذ لهم المنام، لاسيما إذا كان في الشتاء، فيكونون في مكان دافئ، والإنسان الذي يوفقه الله عز وجل يترك هذا الذي يعجبه وترتاح إليه نفسه من الدفء، ويسعى إلى الصلاة، ليحصِّل الأجر والثواب، ولهذا جاء في أذان الفجر: الصلاة خير من النوم، أي: الصلاة خير من النوم الذي طاب لكم وارتحتم إليه واستغرقتم فيه.
والعصر تكون في آخر النهار، أي وقد تعب الناس وكدحوا في الأعمال، فالذي لا يبالي ولا يهمه شأن الصلاة يمكن أن ينام ويتركها.