ثم ساق ابن عمر الحديث عن أبيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: كانوا جالسين عند النبي صلى الله عليه وسلم يستفيدون منه ويتفقهون ويتحملون عنه السنن، فذكر أنه طلع عليهم رجل غريب، لا يعرفه أحد منهم، ومع ذلك لا يظهر عليه أثر السفر؛ لأن شعره شديد السواد، ولباسه شديد البياض، والمعروف أن المعتاد من حال المسافر أنه يصير شعره أشعث وعليه غبار السفر، ولكن هذا على خلاف ما اعتادوه وما ألفوه، فكان موضع استغراب منهم.
وهذا الذي جاء هو جبريل، وكان يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صوره غير معروفة كما في هذا الحديث، وكان يأتي في صورة دحية بن خليفة الكلبي، وكان من أجمل الصحابة رضي الله تعالى عنه.
وفي هذا بيان أن الملائكة خلقهم الله عز وجل ذوي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، وهم يطيرون بأجنحتهم، ويتحول أحدهم من هيئته التي هو عليها إلى هيئة إنسان، وذلك مثلما جاء ضيوف إبراهيم عليه السلام إليه وإلى لوط في صور رجال، وكذلك أتى جبريل عليه السلام إلى مريم في صورة رجل.
وجبريل عليه السلام خلقه عظيم، وله ستمائة جناح كما ثبت في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم على هيئته مرتين: مرة ليلة المعراج فوق السماوات، ومرة رآه في الأرض وقد سد الأفق.
ومعلوم أن أصل الملائكة غير أصل البشر، فإن الملائكة خلقوا من نور والبشر خلقوا من تراب، وقد جاء في القرآن أن آدم عليه الصلاة والسلام خلق من تراب، والجان خلق {مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن:15] وجاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم).
فهذا المخلوق العظيم من نور يتحول إلى هيئة إنسان.
فلما جاء جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصل إليه (أسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع يديه على فخذيه)، وبدأ يسأل الأسئلة التي يريد من ورائها أن يسمع الحاضرون الجواب عليها، ليتعلموا الدين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم).
وفي هذا دليل على أن السائل يمكن أن يسأل ليعلم الجواب لكونه جاهلاً به، ويمكن أن يسأل وهو عالم بالجواب، والمقصود من ذلك أن يسمع الحاضرون الجواب، فيريد أن يشاركه غيره بمعرفة الجواب عن السؤال الذي يسأل عنه.