قال: (قوله: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في جنازة فأخذ شيئاً فجعل ينكت به الأرض)، جاء في بعض الروايات -كما تقدم في التخريج- أن ذلك كان في بقيع الغرقد، وجاء في بعضها بيان ذلك الشيء الذي ينكت به الأرض وأنه عود، وفي بعضها: مخصرة، وهي العصا، وسميت بذلك؛ لأنها تحمل تحت الخصر غالباً للاتكاء عليها، ومعنى (ينكت): أي يخط في الأرض خطاً يسيراً مرة بعد مرة، وذلك فعل المفكر المهموم.
قوله: (قالوا: يا رسول الله! أفلا نتكل؟)، ورد في بعض النصوص تعيين السائل، ففي بعضها أنه سراقة بن مالك بن جعشم، وفي بعضها: أنه شريح بن عامر الكلابي، وفي بعضها: أنه عمر رضي الله عنه، وفي بعضها: أنه أبو بكر رضي الله عنه، قال الحافظ ابن حجر بعد ذكرها: والجمع بينها أن تحمل على تعدد السائلين عن ذلك.
قوله: (أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل): قال الحافظ ابن حجر والفاء معقبة لشيء محذوف تقديره: فإذا كان كذلك أفلا نتكل، وحاصل
Q ألا نترك مشقة العمل فإنا سنصير إلى ما قدر علينا؟ وحاصل
صلى الله عليه وسلم لا مشقة؛ لأن كلاً ميسر لما خلق، وهو يسير على من يسره الله عليه.
قال الطيبي: الجواب من الأسلوب الحكيم: منعهم عن ترك العمل، وأمرهم بالتزام ما يجب على العبد من العبودية، وزجرهم عن التصرف في الأمور المغيبة، فلا يجعل العبادة وتركها سبباً مستقلاً لدخول الجنة والنار، بل هي علامات فقط.
انتهى.
وهذا الحديث أصل في باب القضاء والقدر، وأنه قد سبق قضاء الله تعالى بكون المكلفين فريقين: فريقاً في الجنة، وفريقاً في السعير.
قال النووي: قال الإمام أبو المظفر السمعاني: سبيل معرفة هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة دون محض القياس ومجرد العقول، فمن عدل عن التوقيف فيه ضل وتاه في بحار الحيرة، ولم يبلغ شفاء النفس، ولا يصل إلى ما يطمئن به القلب؛ لأن القدر سر من أسرار الله تعالى التي ضربت من دونها الأستار، اختص الله به، وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم؛ لما علمه من الحكمة، وواجبنا أن نقف حيث حد لنا ولا نتجاوزه، وقد طوى الله تعالى علم القدر عن العالم، فلم يعلمه نبي مرسل، ولا ملك مقرب.
انتهى.
وقال الطحاوي في عقيدة أهل السنة: وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسُلَّم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه كما قال الله تعالى في كتابه: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، وقال: فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله فيه أنه كائن ليجعلوه غير كائن لم يقدروا عليه، ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه ليجعلوه كائناً لم يقدروا عليه، جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه، وقال: فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيماً، وأحضر للنظر فيه قلباً سقيماً، لقد التمس بوهمه في محض الغيب سراً كتيماً، وعاد بما قال فيه أفّاكاً أثيماً.
من فقه الحديث وما يستنبط منه.
أولاً: مشروعية اتباع الجنازة.
ثانياً: أن متبع الجنازة عليه أن يتذكر الآخرة، وأن يظهر عليه أثر ذلك.
ثالثاً: موعظة العالم أصحابه عند القبور.
رابعاً: إثبات القدر، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
خامساً: مراجعة العالم والاستفسار منه عما قد يشكل.
سادساً: أن السعادة والشقاوة بتقدير الله وقضائه.
سابعاً: الرد على الجبرية؛ لأن التيسير ضد الجبر، فالجبر لا يكون إلا عن كره، ولا يأتي الإنسان الشيء بطريق التيسير إلا وهو غير كاره له.
ثامناً: الرد على القدرية؛ لأن أفعال العباد وإن صدرت عنهم فقد سبق علم الله بوقوعها بتقديره سبحانه وتعالى.
تاسعاً: أن العمل الطيب أمارة على الخير، والعكس بالعكس.
عاشراً: النهي عن ترك العمل والاتكال على ما سبق به القدر، بل تجب الأعمال والتكاليف التي ورد الشرع بها، وكل ميسر لما خلق له.
حادي عشر: أن السنة تبين القرآن، وتوضحه، وتدل عليه).