ولا يدل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً) على ما آلت إليه القبائل العربية في الجزيرة بعد قرون من الزمان من قتال بعضهم لبعض، وسلب بعضهم لبعض، فصاروا كحالة الجاهلية الأولى لا يدل على ذلك فقط، لكن كونه يحصل شيء فيما بعد يطابق ما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو جزء من المراد، فالحديث أعم من ذلك، ولكن هذا المعنى ليس مطابقاً لما أورده المصنف هنا من كونه كفراً دون كفر، وأن الصديق رضي الله عنه قاتلهم، فرجع إلى الإسلام من رجع، وقتل على الردة من قتل، وهم المعنيون بما جاء في حديث الذود عن الحوض، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأقول: أصحابي، فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) أي: أنهم ارتدوا وقتلوا على الردة، وهؤلاء الذين رأوا النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا من أصحابه، ولكنهم أدركهم الخذلان وارتدوا عن الإسلام، وقاتلهم الصديق رضي الله عنه، وقتل منهم من قتل على الردة، ومنهم من رجع إلى الإسلام، عدد يسير.
يقول الخطابي عن هذا الحديث: هذا يتأول على وجهين: أحدهما: أن يكون معنى الكفار: المتكفرين بالسلاح، يقال: تكفر الرجل بسلاحه إذا لبسه، فكفر به نفسه، أي: سترها، وأصل الكفر: الستر، ويقال: سمي الكافر كافراً لستره نعمة الله عليه، أو لستره على نفسه شواهد ربوبية الله ودلائل توحيده.
وأقول: كونه يتكفر بالسلاح أو يستتر به، أو يحمله هذا لا يكفي، ولكنه يئول أمره إلى كونه يفعل ذلك مستعداً للقتل، فيحصل منه القتل، وأما مجرد ستر نفسه بالسلاح، أو أنه يلبس السلاح، فمجرد هذا لا يكفي بأن يقال عنه: إنه ذنب، وإنه منهي عنه، فالسلاح يلبس عند الحاجة إليه ولا يصير مذموماً، ولكن إذا آل ذلك إلى أمر لا يسوغ، أو أنه فعله استعداداً لفعل أمر لا يسوغ فالعبرة بهذه النهاية، لا بمجرد اللبس فقط، وكون المعنى اللغوي للكفر أنه الستر لا يكفي في أن يكون هو المقصود.