قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه.
حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح حدثنا ابن وهب عن بكر بن مضر عن ابن الهاد عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (ما رأيت من ناقصات عقل ولا دين أغلب لذي لب منكن! قالت: وما نقصان العقل والدين؟ قال: أما نقصان العقل: فشهادة امرأتين شهادة رجل، وأما نقصان الدين: فإن إحداكن تفطر رمضان، وتقيم أياماً لا تصلي)].
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه]، وقد تقدم في باب رد الإرجاء، أن أهل السنة والجماعة يقولون بأن الإيمان قول واعتقاد وعمل، وأنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأن أهل السنة وسط بين المرجئة وبين المعتزلة والخوارج فيما يتعلق بأسماء الإيمان، والحكم في الآخرة، فهم فيما يتعلق بإطلاق اسم الإيمان وعدم إطلاقه وسط بين المرجئة الذين قالوا: إن كل المسلمين مؤمنون كاملو الإيمان، وأنه لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهذا هو جانب التفريط والإهمال والضياع والانفلات من الأحكام الشرعية، ويقابل هذا التفريط إفراط، وهو أن مرتكب الكبيرة يكون كافراً، وهذا عند الخوارج، وأما عند المعتزلة فهو في منزلة بين المنزلتين، ويكون عندهما في الآخرة خالداً مخلداً في النار لا يخرج منها أبد الآباد، فسلبوا منه الإيمان بالكلية، فهذان طرفان متقابلان: تفريط وإفراط، تفريط المرجئة، وإفراط الخوارج والمعتزلة، وأهل السنة والجماعة وسط بين هؤلاء وهؤلاء، فعندهم أن مرتكب الكبيرة ليس مؤمناً كامل الإيمان، وليس خارجاً من الإيمان كلية، وإنما هو مؤمن ناقص الإيمان، فقول أهل السنة: هو مؤمن، فارقوا به الخوارج والمعتزلة الذين قالوا: ليس بمؤمن، وأنه قد خرج من الإيمان، فالخوارج قالوا: إنه دخل في الكفر، والمعتزلة قالوا: إنه في منزلة بين الإيمان والكفر، ولكنهم متفقون مع الخوارج في تخليده في النار أبد الآباد، وبقولهم: إنه ناقص الإيمان، فارقوا المرجئة الذين قالوا: إنه كامل الإيمان.
إذاً: فقول أهل السنة: مؤمن ناقص الإيمان، هاتان الكلمتان فيهما تحديد مذهب أهل السنة في مرتكب الكبيرة، فلم يسلبوه مطلق الإيمان الذي هو أصله، ولم يعطوه الإيمان المطلق الذي هو الكمال، فهو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، يحب على ما عنده من الإيمان، ويبغض على ما عنده من الفسق والعصيان، فيكون محبوباً باعتبار، ومبغوضاً باعتبار آخر.
ولا مانع من أن يجتمع في الشخص محبة وبغض، فتكون المحبة باعتبار، والبغض باعتبار، كما يقول الشاعر: الشيب كره وكره أن أفارقه فاعجب لشيء على البغضاء محبوب فالشيب؛ إذا نظر إلى ما تقدمه وهو الشباب فليس مرغوباً فيه ولا محبوباً، ولكن إذا نظر إلى ما وراءه وهو الموت صار مرغوباً فيه ومحبوباً، ولا يراد مفارقته إلى ما بعده.
فأهل السنة والجماعة يقولون: إن مرتكب الكبيرة إذا مات من غير توبة فإن أمره إلى الله عز وجل إن شاء عفا عنه فلم يدخله النار وأدخله الجنة من أول وهلة، وإن شاء عذبه في النار ولكنه لا يخلده فيها، بل يبقى فيها المدة التي شاء الله عز وجل أن يبقى فيها، ثم يخرجه ويدخله الجنة.
فالمعتزلة والخوراج غلبوا جانب الوعيد وأهملوا جانب الوعد، والمرجئة غلبوا جانب الوعد وأهملوا جانب الوعيد، وأما أهل السنة والجماعة فأخذوا بالوعد والوعيد جميعاً، ولهذا يأتي في القرآن كثيراً الجمع بين الوعد والوعيد؛ للترغيب والترهيب، فإذا جاء ذكر الترغيب فإنه يأتي بعده ذكر الترهيب، كقوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50]، فهذا ترغيب وترهيب، وقوله: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} [الأنعام:147]، فهذا ترغيب، {وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:147]، وهذا ترهيب، وقوله: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:13 - 14]، وهذا ترغيب وترهيب، فأهل السنة والجماعة يأخذون بهذا وهذا، ويقول بعض العلماء: إن المسلم يسير إلى الله عز وجل بالخوف والرجاء، فيكون خائفاً راجياً، ويقول بعضهم: إن الخوف والرجاء للمسلم كالجناحين للطائر، فإذا كان الجناحان سليمين فإن الطيران بهما يكون سهلاً ميسوراً، وإذا اختل أحد الجناحين اختل الطيران.
فأهل السنة يجمعون بين الترغيب والترهيب، والخوف والرجاء، فلا يأخذون بالبعض ويتركون البعض الآخر، وإنما يأخذون الجميع، وعلى هذا فهم وسط في أمور الدنيا، وفيما يتعلق بأحكام الإيمان والكفر، وهم أيضاً وسط في أحكام الآخرة.
قال الإمام أبي داود هنا: [باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه]، ثم أورد جملة من الأحاديث على زيادة الإيمان ونقصانه، وقد قال الإمام البخاري رحمه الله: لقيت أكثر من ألف شيخ كلهم يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وهو عند أهل السنة يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.
وقد أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام قال (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن) أي: لذي عقل منكن، أي: من النساء، فوصفهن بأنهن ناقصات عقل ودين، ومحل الشاهد منه نقص الدين، فالإيمان يزيد وينقص، وفسر نقصان الدين هنا بأن المرأة يأتي عليها أيام لا تصلي ولا تصوم بسبب الحيض، وهذا -كما هو معلوم- ليس من قبلها، وليس الأمر في ذلك إليها، وإنما هذا شيء كتبه الله عليها، فهو بقضاء الله وقدره، وخلقه وإيجاده، والفرق بينهن وبين الرجال أن الرجال مستمرون في الصيام والصلاة، فعندهم إذاً زيادة في الأعمال في هذه المدة التي لا يصلي فيها النساء ولا يصمن، فيكون في ذلك زيادة ثواب عند الله عز وجل، فتكون الصلاة والصيام عند الرجال باستمرار، ولا يمنعهم من ذلك مانع إلا الأمور الطارئة التي تحصل للرجال والنساء، كالمرض وكالسفر، فهذا النقص يكون لأمر يرجع إلى الإنسان كفعل المعاصي، ويكون بشيء لا يرجع إليه كما جاء في هذا الحديث من كون النساء ناقصات عقل ودين، وسألته النساء عن ذلك فأخبر بأنه يأتي عليها أيام لا تصلي ولا تصوم بسبب الحيض، وأما نقصان العقل فإن شهادتها بشهادة نصف رجل كما جاء ذلك في القرآن {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة:282].
وهذه المسألة -وهي نقصان العقل في حق النساء- واحدة من خمس مسائل النساء فيهن على النصف من الرجال، فشهادة امرأتين بشهادة رجل، وكذلك الميراث {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، وكذلك في العقيقة؛ فالغلام يعق عنه بشاتين والجارية بشاة واحدة، وكذلك في العتق، (من اعتق عبداً كان فكاكه من النار، ومن اعتق جاريتين كانتا فكاكه من النار)، والخامسة: الدية، فهذه خمس مسائل النساء فيهن على النصف من الرجال، والأصل هو التساوي بين الرجال والنساء في الأحكام، إلا إذا جاءت النصوص تفرق بينهما.