قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في رد الإرجاء.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا سهيل بن أبي صالح عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة العظم عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: [باب في رد الإرجاء].
والإرجاء في اللغة: هو التأخير، قال الله عز وجل: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} [التوبة:106] أي: مؤخرون، وقال: {قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ} [الأعراف:111] أي: أخره وأخاه.
وأما في الاصطلاح: فهو تأخير الأعمال عن أن تكون داخلة في الإيمان.
وينقسم الإرجاء إلى قسمين: إرجاء الغلاة وإرجاء الفقهاء، وإرجاء الغلاة: أنه لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة، ولا فرق بين أتقى الناس وأفجر الناس، فما دام أن الكل مسلم فهم متساوون، ولا فرق بين هؤلاء وهؤلاء، ولا يتفاوت الناس في الإيمان، وهذا مخالف للنصوص الكثيرة الدالة على أن الذنوب تضر أصحابها، وأن أمر صاحبها إلى الله سبحانه وتعالى، وأما الطاعة مع الكفر فلا تنفع، فالكافر إذا حصلت منه طاعة فإنها تكون مردودة وغير مقبولة، كقوله عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23].
وأما مرجئة الفقهاء فهم الذين يقولون: إن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، وأن الإيمان هو تصديق بالقلب، وقول باللسان، وأما عمل الجوارح فلا يدخل في مسمى الإيمان، والمعروف عند أهل السنة والجماعة أن الإيمان يتكون من هذه الأمور الثلاثة: التصديق بالجنان، وقول باللسان، والعمل بالجوارح والأركان.
ونورد هنا أقوال كبار أئمة السلف الدالة على موقفهم من الإرجاء: قال سفيان الثوري رحمه الله: خالفنا المرجئة في ثلاث: نحن نقول: الإيمان قول وعمل، وهم يقولون: قول بلا عمل، ونحن نقول: يزيد وينقص، وهم يقولون: لا يزيد ولا ينقص، ونحن نقول: أهل السنة عندنا مؤمنون، أما عند الله فالله أعلم، وهم يقولون: نحن عند الله مؤمنون.
أي: مؤمنون كاملو الإيمان، فعندهم أن كل إنسان مسلم فهو كامل الإيمان.
وهذا الأثر أخرجه البيهقي في كتاب (الاعتقاد إلى سبيل الرشاد).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وقالت المرجئة -على اختلاف فرقهم-: لا تذهب الكبائر وترك الواجبات الظاهرة شيئاً من الإيمان، إذ لو ذهب شيء منه لم يبق منه شيء، فيكون شيئاً واحداً يستوي فيه البر والفاجر، ونصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه تدل على ذهاب بعضه وبقاء بعضه، كقوله: (يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان).
وهذا كلام صحيح، وهذا هو الواقع، فالناس متفاوتون في الإيمان، ففيهم من هو كامل الإيمان، وفيهم من هو ناقص الإيمان، وكلهم مؤمنون، لكن لا يقال: إن أتقى الناس وأفجر الناس سواء.
وسئل الإمام أحمد رحمه الله: عمن قال: الإيمان يزيد وينقص؟ قال: هذا بريء من الإرجاء.
وقال الإمام البربهاري: ومن قال: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص؛ فقد خرج من الإرجاء كله: أوله وآخره.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، إذا زنى وشرب الخمر نقص إيمانه.
وقال الإمام أحمد: قيل لـ ابن المبارك: ترى الإرجاء؟ قال: أنا أقول: الإيمان قول وعمل، وكيف أكون مرجئاً؟! وقال أبو عثمان الصابوني رحمه الله: ومن مذهب أهل الحديث أن الإيمان قول وعمل ومعرفة، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
وأخرج الآجري من طريق أحمد بن حنبل عن عمير بن حبيب قال: الإيمان يزيد وينقص، فقيل: وما زيادته، وما نقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله فحمدناه وسبحناه فتلك زيادته، وإذا غفلنا وضيعنا ونسينا فذلك نقصانه.
وقال الزهري رحمه الله: ما ابتدعت في الإسلام بدعة أضر على الملة من هذه، يعني: أهل الإرجاء.
والمقصود من ذلك: أنها تؤدي إلى التسيب والانفلات من الأحكام الشرعية، فالمرجئة يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، أي: أن للإنسان أن يفعل المعاصي كيف يشاء، ومع ذلك فإنه يكون مؤمناً كامل الإيمان، ففيها التسيب والانفلات، وفيها عدم الاهتمام بالتكاليف؛ لأن التكاليف عندهم تركها لا يؤثر، والمعاصي فعلها لا يؤثر، فهذا يدل على خطورتها من ناحية الانفلات من الأحكام الشرعية.
وقال الحميدي: سمعت وكيعاً يقول: أهل السنة والجماعة يقولون: الإيمان قول وعمل، والمرجئة يقولون: الإيمان قول، والجهمية يقولون: الإيمان المعرفة، أي: التصديق.
وقد ذكر البخاري رحمه الله أنه لقي أكثر من ألف شيخ كلهم يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص.
وقال الأوزاعي رحمه الله: ثلاث هن بدعة: أنا مؤمن مستكمل الإيمان، وأنا مؤمن حقاً، وأنا مؤمن عند الله.
لأن هذه أقوال المرجئة، فمؤمن مستكمل الإيمان عندهم، يعني: كل الناس مؤمنون كاملو الإيمان، ومؤمن حقاً هو بمعناه، يعني: عنده حقيقة الإيمان، وكذلك مؤمن عند الله، فهي كلها بمعنى واحد.
وقال سعيد بن جبير رحمه الله: مثل المرجئة مثل الصابئين.
وممن روي عنه أن الإيمان قول وعمل: الحسن وسعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز وعطاء وطاوس ومجاهد والشعبي والنخعي والزهري ومالك والشافعي وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وغيرهم فهم لا يحصون، وقد ذكر الإمام البخاري أن أكثر من ألف شيخ لقيهم كلهم يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص.
وقال محمد بن جرير الطبري: والصواب لدينا من القول: أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص وبه الخبر عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه مضى أهل الدين والفضل.
يقول: ثم أول من تكلم بالإرجاء هو: زرقان بن غيلان، قال: إن الإيمان هو الإقرار باللسان، وهو التصديق.
نقله في (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) للالكائي.
وأورد أبو داود رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة العظم عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)، والمقصود من إيراد هذا الحديث أن الإيمان له شعب، وأن الأعمال داخلة في هذه الشعب، مثل إماطة العظم عن الطريق، فهذا عمل من الأعمال وأدخله في الإيمان، وكذلك قول اللسان هو عمل اللسان، وكذلك الحياء شعبة من الإيمان، وهو عمل القلب، فكل هذه داخلة في مسمى الإيمان وهي أعمال، ولكن الشيء الذي هو عمل واضح في هذا الحديث هو إماطة العظم عن الطريق، وقد جاء في بعض الروايات: إماطة الأذى، وهو أعم من أن يكون عظماً، فقد يكون الأذى شوكاً، أو عظماً، أو زجاجاً، أو حجراً، أو شيئاً يحصل به الانزلاق كقشر الموز، وغير ذلك من الأشياء، فإزالة ذلك من الإيمان.
فهذا الحديث يدل على أن هذه كلها داخلة تحت مسمى الإيمان، وأنها شعبة من شعبه، وفيها ما هو عمل.