قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يدل على ترك الكلام في الفتنة.
حدثنا مسدد ومسلم بن إبراهيم قالا: حدثنا حماد عن علي بن زيد عن الحسن عن أبي بكرة ح وحدثنا محمد بن المثنى عن محمد بن عبد الله الأنصاري قال: حدثني الأشعث عن الحسن عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي: (إن ابني هذا سيد، وإني أرجو أن يصلح الله به بين فئتين من أمتي) وقال في حديث حماد: (ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين عظيمتين)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب ما يدل على ترك الكلام في الفتنة].
لأن ما جرى من فتن وأمور حصلت بين الصحابة فإنه يترك الكلام فيها، وهذا هو معنى ما جاء عن كثير من العلماء في كتب العقائد، لا سيما المختصرة منها: الكف عما شجر بين الصحابة، يعني: من عقيدة أهل السنة والجماعة الكف عما شجر بينهم، وألا يتكلم فيهم إلا بخير، وأن تحسن بهم الظنون، وأن يحمل ما جرى منهم على أحسن المحامل، وفي ذلك سلامة القلوب وطهارتها ونظافتها من أن يقع فيها شيء لا يليق في حق بعض الصحابة، فالواجب الترحم على الجميع والترضي عنهم، واعتقاد أنهم لا يعدمون الأجر أو الأجرين، فمن اجتهد منهم فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد.
وقد جاء عن بعض أهل العلم أنه قال: إن الفتن التي كانت في أيامهم قد صان الله منها سيوفنا، فنسأله أن يصون منها ألسنتنا، يعني: ما كنا في زمانهم حتى يكون لأيدينا مشاركة، وبقيت الألسن فنسأل الله عز وجل أن يصونها وأن يحفظها من أن تتكلم فيهم بما لا ينبغي وبما لا يليق، بل الواجب محبة الجميع وتعظيمهم وتوقيرهم، وألا يشتغل بما جرى بينهم، وإذا اشتغل به فيكون بالاعتذار وبيان سلامتهم، وكثير مما نقل عنهم زيد فيه ونقص منه، وبعضه كذب، وما صح منه فهم دائرون فيه بين الأجر والأجرين، إما مجتهدون مصيبون فلهم أجران، وإما مجتهدون مخطئون فلهم أجر واحد، والخطأ منهم مغفور، هذا هو الواجب في حق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
وقد أورد أبو داود حديث أبي بكرة رضي الله تعالى عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام كان على المنبر ومعه ابنه الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما، فقال عليه الصلاة والسلام: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين من أمتي)، وفي بعض الروايات: (بين فئتين من المسلمين عظيمتين) وهذا يدل على إخبار النبي عليه الصلاة والسلام بأمر مغيب يأتي في المستقبل، وهو من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام، وذلك من الإيمان بالغيب؛ لأن الإيمان بالغيب يكون عن أخبار ماضية وعن أمور مستقبلة، وعن أمور موجودة لكنها غير مشاهدة ولا معاينة، وهذا مما حصل فيه الإخبار عن أمر مستقبل وقريب من زمنه صلى الله عليه وسلم، فإنه أخبر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن هذا الغلام سيصلح الله به بين فئتين من المسلمين، وقد فهم من هذا أن الحسن سيعيش، وأنه لن يموت طفلاً، بل سيبقى حتى يصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر عن ذلك، وخبره لا يتخلف، بل هو صدق، وهو لا ينطق عن الهوى صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وقد حصل هذا الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته بثلاثين سنة، فتحقق هذا الذي أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام، واجتمعت كلمة المسلمين بتنازل الحسن رضي الله عنه وأرضاه، وسمي ذلك العام الذي هو عام (41) هـ عام الجماعة، لاجتماع كلمة المسلمين، وكونه صار لهم خليفة اجتمع عليه الناس وصارت الكلمة واحدة، وتحقق ذلك الذي أخبر به الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وفيه إطلاق السيد على المخلوق، وقد جاء إطلاقه على الله عز وجل، فالله تعالى من أسمائه السيد، ويطلق على المخلوق سيد كما جاء في هذا الحديث حيث قال: (إن ابني هذا سيد).
وفيه أيضاً وصف الفئتين اللتين يحصل الصلح بينهما بأنهما مسلمتان، وهذا فيه بيان أن هؤلاء الذين حصل بينهم الخلاف مسلمون وأن كلمتهم ستجتمع بتنازل هذا الرجل العظيم لـ معاوية رضي الله تعالى عن الجميع، وقد جاء عن سفيان بن عيينة رحمه الله أنه كان يقول: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (من المسلمين) يعجبنا جداً، يعني: وصف الطائفتين بأنهما من المسلمين مع اقتتالهم واختلافهم، فهو يقول رحمه الله: إن هذا يعجبنا جداً؛ لأنه حكم بإسلام الجميع، وأن هذا اختلاف بين مسلمين، وأن هذا الاتفاق حصل بين فئتين عظيمتين من المسلمين على يد الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما.