وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث عمران بن حصين: (خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم) وهم الصحابة، وقوله: (الذي بعثت فيهم) يدلنا على أن المقصود هؤلاء الذين رأوه والذين سمعوا كلامه، والذين تلقوا الحق والهدى منه وبلغوهما إلى الناس، فهؤلاء هم خير أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: (خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) أي: قرن الصحابة أولاً ثم قرن التابعين ثم قرن أتباع التابعين، وقد جاء الشك في حديث عمران بن حصين، يعني هل ذكر الثالث أي: بعد قرنه صلى الله عليه وسلم، وليس المقصود من ذلك الشك في قرن أتباع التابعين، فإن الأحاديث التي وردت في ذكر القرون الثلاثة كثيرة، وإنما الشك في كونه ذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة، والصحيح أنه ذكر قرنين، مع قرنه، فقرنه الذي هو قرن الصحابة وقرن التابعين وأتباع التابعين، والقرن الرابع لم يثبت فيه شيء، وإنما الثابت هو القرن الثالث الذي هو قرن أتباع التابعين.
فإذاً: الشك في القرن الثالث بعد قرنه صلى الله عليه وسلم، وليس بقرنه عليه الصلاة والسلام، فالقرون الثلاثة هذه جاءت عن جماعة من الصحابة.
ويوضح ذلك الحديث الصحيح الذي جاء في صحيح البخاري وصحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يأتي على الناس زمان فيغزوا فئام منهم، فيقال: هل فيكم من صحب أو من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم -وهذا المراد به الصحابة- ثم يأتي على الناس زمان فيغزوا فئام منهم، فيقال: هل فيكم من رأى من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزوا فئام منهم، فيقال: هل فيكم من رأى من صحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم) وهذه القرون الثلاثة هي: قرن الصحابة، وقرن التابعين، وقرن أتباع التابعين.
وقد ذهب أهل السنة والجماعة إلى تفضيل جميع أفراد الصحابة على جميع الأفراد الذين يجيئون بعد زمانهم، أي: أن كل واحد من الصحابة أفضل من أي واحد ممن يأتي بعدهم، ولم يأت ما يخالف ذلك إلا ما نقل عن ابن عبد البر رحمه الله أنه قال: يمكن أن يكون في بعض من يأتي بعد الصحابة من هو أفضل من بعض الصحابة.
ولكن هذا خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة والذي لا يعرف عنهم غيره، وهو أن التفضيل للجميع لا للمجموع، وأن أي واحد من الصحابة فإنه يكون أفضل من أي واحد ممن بعدهم، فإن ما حصل لهم من صحبة النبي صلى الله عليه وسلم والجهاد معه وتلقي الكتاب والسنة عنه وتأديتهما إلى الناس هذا شيء تميزوا به واختصوا به، فصار لهم فضل لا يدانيه أحد ولا يساويه أحد، ولهذا جاء في حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه الذي مر: (لمشهد رجل منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يغبر به وجهه خير من عمل أحدكم عمره ولو عمر عمر نوح).
قوله: [(خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)]، أي: الصحابة والتابعون وأتباع التابعين.
قوله: [والله أعلم أذكر الثالث أم لا؟].
أي: هل ذكر الثالث بعد قرنه؟ وليس الثالث مع قرنه، فإن الثلاثة القرون هذه جاءت فيها النصوص، وإنما الخلاف في القرن الرابع أي قرن أتباع أتباع التابعين، وإلا فإن الثلاثة القرون -قرن الصحابة وقرن التابعين وقرن أتباع التابعين- جاءت عن جماعة من الصحابة.
قوله: [(ثم يظهر قوم يشهدون ولا يستشهدون)].
معناه: أنهم يتساهلون في أمر الشهادة ويحرصون على الشهادة دون أن تطلب منهم، وأما إذا كان الإنسان عنده شهادة وصاحب الشهادة لا يدري أن عند فلان شهادة وعنده فصل في أمر من الأمور، وشهادته تبين حقاً وتوضح حقاً فإن إدلاءه بشهادته محمود، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (خيركم الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها) وأما إذا كان صاحب الحق يدري ويعرف، ولكن الإنسان يأتي فيخبر بأنه عنده شهادة، إما لأمر يكون بينه وبين ذلك الشخص الذي يشهد عليه أو لغير ذلك؛ فهذا هو الذي يكون مذموماً.
قوله: [(وينذرون ولا يوفون)].
يعني: يحصل منهم النذر ثم لا يوفون، والنذر يجب الوفاء به إذا وجد، ولكن ليس من المرغب فيه أن ينذر الإنسان، وإنما على الإنسان إذا أراد أن يحسن أن يحسن بدون نذر، وإذا أراد أن يتقرب إلى الله عز وجل بقربة فليبادر إليها بدون أن يعلقها بشيء، ودون أن ينيطها بشيء؛ لأن إناطتها بشيء وتعليقها بشيء يعني أن هذا ما حصل منه ابتداءً من أجل أن يتقرب إلى الله عز وجل به، وإنما إذا حصل له كذا فإنه يفعل كذا وكذا، ثم إذا حصل له ذلك الشيء الذي يترتب عليه النذر ضاق صدره وصار يتألم ويبحث عن مخارج يتخلص بها من ذلك النذر الذي ألزم نفسه به، فيكون فعله لتلك العبادة ولتلك الطاعة لم يحصل في البداية على وجه مشروع وعلى وجه مستحب، وفي النهاية حصل التلكؤ وحصل الامتعاض والتأثر والتألم، وأنه لم يكن مرتاحاً إلى ذلك الذي تصدق به، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام (إن النذر لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل) فالبخيل لا يحسن، ولكنه ينيط إحسانه بشيء إذا وجد، وإذا وجد لزمه ذلك، وقد يبحث عن سبيل يتخلص به من ذلك النذر، فالنذر إذا وجد يجب الوفاء به، وهو عبادة لا تكون إلا لله عز وجل، لكن ليس مرغباً فيها وليس مأموراً بها؛ لأنها ليست عبادة متمحضة لله عز وجل ابتداءً، وإنما معلقة بشيء.
قوله: [(ويخونون ولا يؤتمنون)].
يعني: تظهر فيهم الخيانة وقلة الأمانة.
قوله: [(ويفشو فيهم السمن)].
لأنهم مهتمون بمتع الدنيا والانهماك فيها والافتتان فيها، وعدم الاشتغال بشيء آخر سواها.