قوله: [واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم]، ومعلوم أن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم بالمعنى العام -كما مر في أول (كتاب السنة) - هي كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن رغب عن سنتي فليس مني)، فسنته هنا: ما جاء به من الكتاب والسنة، والتزام سنته يكون باتّباع كل ما جاء به عليه الصلاة والسلام من الوحي كتاباً وسنة، فمن فعل ذلك فهو سائر على منهاج النبوة، وهو سالك طريقة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وهذه هي الوصية الثالثة.
ومعنى اتباع السنة: أن يعرف السنة ويعمل بها، فيكون بذلك متبعاً لا مبتدعاً.
والوصية الرابعة -وهي تقابل اتباع السنة- وهي النهي عن اتباع المحدثات والأخذ بها، فعلى المسلم أن يترك ما أحدثه الناس في دين الله، وليكن متبعاً للسنة تاركاً للبدعة، وهاتان الوصيتان قد جاءتا في حديث العرباض بن سارية حيث قال: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً)، ثم أرشد إلى اتباع السنة بقوله: (فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)، فأمر باتباع السنة، وحذر من الوقوع في البدعة، ففيهما ترغيب في السنن، وتحذير من البدع، فقوله: (فعليكم بسنتي) ترغيب، وقوله: (وإياكم ومحدثات الأمور) ترهيب، وقد مر حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه مشروحاً قريباً في الباب الذي قبل هذا.
قوله: [وترك ما أحدث المحدثون بعد ما جرت به سنته] أي: بعد أن جاءت الشريعة واكتملت، وثبتت السنة واستقرت، فلا يضاف إليها شيء؛ لأنها شريعة كاملة لا تحتاج إلى إضافات، فهي في غاية التمام والكمال، وكل ما يحتاج إليه الناس في أمور دينهم قد بينه الرسول صلى الله عليه وسلم، فالواجب هو الاتباع وترك الابتداع.
قوله: [بعد ما جرت به سنته] أي: بعدما جاءت السنة واستقرت وعرفت، فإن إحداث شيء بعدها يُعدُّ من البدع، ويعدّ من محدثات الأمور؛ ولهذا فإن إضافة شيءٍ إلى شريعة الله عز وجل وإلحاقه وإلصاقه بها ولم يشرعه الله يُعدُّ اتهاماً للشريعة بالنقصان، وأنها تحتاج إلى تكميل، وقد جاء عن مالك بن أنس رحمة الله عليه أثر عظيم ذكره الشاطبي في كتاب (الاعتصام) قال: (من قال: إن في الإسلام بدعة حسنة فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأن الله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، ثم قال: ما لم يكن ديناً يومئذ فإنه لا يكون اليوم ديناً) يعني: أن ما لم يكن ديناً في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإنه لا يكون ديناً بعد ذلك، ومعنى ذلك: أن الإنسان عندما يأتي بشيءٍ لم يشرعه الله تعالى فيضيفه إلى الشريعة، فكأنه يزعم بلسان حاله أن الشريعة ناقصة تحتاج إلى تكميل، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغ الرسالة كاملة، والحق أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يمت إلا وقد بلغ كل شيءٍ أُمر بتبليغه، وقد ذكر البخاري رحمه الله في صحيحه أثراً عن الزهري أنه قال: (من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم) فقوله: (من الله الرسالة) فقد حصل ذلك، وقد أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب (وعلى الرسول البلاغ)، وقد حصل ذلك أيضاً على التمام والكمال (وعلينا التسليم)، وهنا ينقسم الناس إلى موفق ومخذول، فمنهم من يسلِّم فيسلم، ومنهم من لا يحصل منه التسليم فيحصل له الانحراف والإعراض عن الجادة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فالحاصل أن الشريعة قد استقرت وليس هناك شيءٌ يضاف إليها بعدما أكملها الله عز وجل؛ ولهذا جاء عن الحسن البصري رحمة الله عليه في تفسير قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67] أنه قال مشيراً إلى مذهب الجهمية الذي أحدثه الجعد بن درهم، (لو كان ما يقوله الجعد حقاً لبلغه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى أمره بالتبليغ)، فكيف يكون حقاً ولم يبلغه الرسول صلى الله عليه وسلم؟! إذاً فهو باطل، وهو من محدثات الأمور، وهو داخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي) وليس هذا من سنته، وإنما هو خارج عن سنته، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يترك شيئاً يقرب إلى الله عز وجل إلا ودل عليه، ولم يترك شيئاً يباعد من الله عز وجل إلا حذر منه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
فهذه هي الوصايا الأربع النفيسة التي افتتح بها عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه إجابته لهذا الرجل الذي سأله عن القدر، ومهد له بهذا التمهيد، وأتى بهذه الأمور العامة التي عليه أن يأخذ وأن يتقيد بها؛ لأنها مدخل للقدر وغير القدر، فكل ذلك لابد أن ينبني على السنة، وأن يجتنب ما أحدث المحدثون، وابتدعه المبتدعون.
قوله: [واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وترك ما أحدث المحدثون بعد ما جرت به سنته، وكفوا مؤنته] أي: بما أنزل الله عز وجل من الحق والهدى على رسوله، واتبعه على ذلك أصحابه، فالواجب أن يسار على منوالهم، وأن يسلك مسلكهم، ولا يُخرج عن هذا الطريق المستقيم الذي جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد كفوا تلك الأمور المحدثة بما أنزله الله عز وجل من الوحي، وبما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من السنن، فليسوا بحاجة إلى أن يأتوا بأشياء خارجة عن ذلك، ولا يجوز لأحد أن يضيف إليها شيئاً ليس منها، وإن حصل شيء من ذلك فإنه مردود على صاحبه كما جاء في الحديث المتفق على صحته عن أم المؤمنين عائشة وقد مر قريباً: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد).
وقد عرفنا أيضاً أن العمل المقبول عند الله تعالى لا ينفع صاحبه إلا إذا توافر فيه أمران: الأول: أن يكون خالصاً لوجه الله، والثاني: أن يكون مطابقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا اختل أحد هذين الشرطين فإن العمل يكون مردوداً على صاحبه.