شرح أثر معاذ بن جبل (إن من ورائكم فتناً يكثر فيها المال)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يزيد بن خالد بن يزيد بن عبد الله بن موهب الهمداني حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب أن أبا إدريس الخولاني عائذ الله أخبره أن يزيد بن عميرة -وكان من أصحاب معاذ بن جبل - أخبره قال: كان لا يجلس مجلساً للذكر حين يجلس إلا قال: الله حكم قسط، هلك المرتابون، فقال معاذ بن جبل رضي الله عنه يوماً: إن من ورائكم فتناً يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن، حتى يأخذه المؤمن والمنافق والرجل والمرأة والصغير والكبير والعبد والحر، فيوشك قائل أن يقول: ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن؟ ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره، فإياكم وما ابتدع، فإن ما ابتدع ضلالة، وأحذركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق، قال: قلت لـ معاذ: ما يدريني -رحمك الله- أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال: بلى، اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال لها: ما هذه؟! ولا يثنينك ذلك عنه؛ فإنه لعله أن يراجع، وتلقى الحق إذا سمعته فإن على الحق نوراً.

قال أبو داود: قال معمر عن الزهري في هذا الحديث: ولا ينئينك ذلك عنه، مكان: يثنينك، وقال صالح بن كيسان عن الزهري في هذا: المشبهات، مكان: المشتهرات، وقال: ولا يثنينك كما قال عقيل، وقال ابن إسحاق عن الزهري قال: بلى ما تشابه عليك من قول الحكيم حتى تقول: ما أراد بهذه الكلمة؟].

أورد أبو داود هذا الأثر عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال يزيد بن عميرة وهو من أصحابه: إن معاذاً لم يكن يجلس مجلساً للذكر إلا قال: إن الله حكم قسط، هلك المرتابون، أي: إنه كان يقول هذه العبارة ويكررها في مجالسه التي يذكر فيها الناس ويعظهم، ثم إنه قال يوماً من الأيام: (إن من ورائكم -يعني: أمامكم- فتناً يكثر فيها المال) أي: يفيض فيها المال على الناس.

قوله: [(ويفتح فيها القرآن، حتى يأخذه المؤمن والمنافق، والرجل والمرأة، والصغير والكبير)] أي: كلهم يقرأ القرآن، فالمؤمن يقرأ القرآن، والمنافق يقرأ القرآن، والصغير يقرأ القرآن، والكبير يقرأ القرآن، والمرأة تقرأ القرآن، والرجل يقرأ القرآن، فكل هؤلاء يكونون على علم ومعرفة بالقرآن.

قوله: [فيوشك قائل أن يقول: ما بال الناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن؟!] معنى ذلك: أنه يدعوهم إلى القرآن وإلى ما فيه فلا يستجيبون له، ثم بعد ذلك يقوم بأمر منكر، وهو: أنه يفكر أو تحدثه نفسه بأن يحدث لهم شيئاً غير القرآن حتى يتبعوه؛ لأنهم لم يتبعوه على الحق.

قوله: [(ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره)]، فيبتدع لهم بدعة فيدعوهم إليها، وعند ذلك قال معاذ: (فإياكم وما ابتدع) وهذا فيه تحذير وترهيب مما ابتدعه المبتدع ودعاهم إليه.

قوله: [(فإن ما ابتدع ضلالة)]؛ لأن كل بدعة ضلالة، وقد قال رسول الله صلى الله وسلم: (وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة).

قوله: [(وأحذركم زيغة الحكيم)] وهو الإنسان الذي عنده حكمة، وعنده كلام حسن جميل، فيحصل منه خطأ وزلل، أو يغويه الشيطان فيحصل منه سوء فهم، فيأتي بكلام باطل يعتبر زيغة وزلة من هذا الحكيم، فيجب أن يحذر من تلك الزلات، ويجب أن تجتنب حتى لا يغتر بها.

قوله: [(فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم)] أي: إن الشيطان قد يضل الإنسان حتى يقول كلمة الباطل والضلال، مع أنه معروف بالكلام الطيب والجميل، فإنه يحذر من زلله وخطئه وزيغه، وعكس ذلك أن المنافق قد يقول كلاماً حسناً جميلاً، فالحق يؤخذ ممن جاء به، والباطل يترك ممن جاء به.

قوله: [(قلت لـ معاذ: ما يدريني رحمك الله! أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟)] أي: أن يزيد بن عميرة سأل معاذ بن جبل عن ذلك، فأجابه معاذ بقوله: (بلى، اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال لها: ما هذه؟) أي: اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات أو المشبهات التي تجعل الإنسان يسأل عنها: ما هذه؟ أي: لكونها شيئاً غريباً يلفت النظر، فهي قد اشتهرت بغرابتها، وبمخالفتها للكلام الحسن الذي معه، وهذا يشبه ما جاء في الحديث الذي فيه: (استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك) أي: أن الإنسان قد يرتاب ويتوقف ويتردد في الشيء لأن فيه شبهة جعلته يتردد فيه، وجعلته يقف ويسأل عن ذلك، فالإنسان أحياناً قد يسأل عن شيء فيه اشتباه؛ لأن نفسه مترددة فيه، وهناك أشياء لا يسأل عنها، وهذا مثل بعض التسميات، فيأتي ويسأل عن بعض الأسماء: هل يجوز التسمية بهذا الاسم أو لا يجوز؟ لأنه في نفسه شيء من هذه التسمية، فهذا مثال يبين أن الإنسان قد يحصل منه التوقف أو التردد في شيء، فكلام الحكيم الذي يجتنب ويحذر هو الذي يشتهر بمخالفته لغيره مما هو مستقيم، مما يجعل الناس يقولون: ما هذا؟ فهذه هي علامة ذلك الكلام الذي يكون فيه زيغ الحكيم.

قوله: [(قال اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال لها: ما هذه؟ ولا يثنينك ذلك عنه، فإنه لعله أن يراجع)]، أي: أن هذا الحكيم الذي حصل منه هذا الزلل والخطأ فأمرت باجتنابه وتركه، لا يثنينك ذلك عنه، بمعنى أنك لا تنابذه وتبتعد عنه وتعاديه، فلعله أن يراجع فيعود ما كان على ما كان، وقد يكون لُبس عليه، وقد يكون قال بقول خطأ فنبه عليه فرجع، فيجتنب خطؤه ولا يفاصل ويعادى، ولهذا قال: لا يثنينك، أي: لا يرجعنك ويعطفنك عنه، وفي بعض الروايات: لا ينئينك عنه، أي: لا يبعدك عنه ذلك؛ وهو من النأي، وهو البعد، {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام:26] أي: يبتعدون عنه.

قوله: [(وتلقى الحق إذا سمعته فإن على الحق نوراً)]، وهذا يرجع إلى المنافق، أي: إن الحق يعرف ممن هو مبطل وعلى ضلال، فإذا كان كلاماً حسناً وصحيحاً فهو مقبول، والحق ضالة المؤمن يأخذه حيث وجده؛ ولهذا جاء في القرآن لما ذكر الله عز وجل عن الكفار: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف:28]، فأنكر الله عليهم واحدة وأقر الثانية؛ لأنها حق مطابق للواقع، فقولهم: ((وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا)) هذا حق، فلم يرد عليهم الله تعالى ذلك، ولم يتعرض لها، وإنما تعرض للفقرة الثانية وهي قولهم: ((وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا))، فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف:28]، ولهذا جاء في القرآن: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، فهذا هو الواقع.

[قال أبو داود: قال معمر عن الزهري في هذا الحديث: ولا ينئينك ذلك عنه مكان (يثنينك)] أي: أن معمراً روى الحديث عن الزهري، ولكنه أتى بدل: (يثنينك) (ينئينك)، ومعنى (وينئينك): يبعدنك فهو من النأي، وهو: البعد، والمعنى: لا تنأ ولا تبتعد عنه، ولا تفاصله وتتركه وتنفض يدك منه، ولا تسلط لسانك عليه بسبب هذه الزلة، فإنه لا يسلم أحد من الزلل، ولا يسلم أحد من الخطأ، ولو كان كل من أخطأ ينابذ ويبتعد عنه لما سلم أحد من ذلك، فالعالم إذا حصل منه خطأ فإنه يقبل ما عنده من الحق، ويحذر مما عنده من الخطأ، ولا يترك ما عنده من العلم، فإن من العلماء من ابتلوا ببعض مشايخهم، فحصل لهم التضرر ببعض المشايخ، فصار عندهم شيء من الانحراف في العقيدة، ومع ذلك فهم علماء ومحدثون، ولهم مؤلفات واسعة، والناس لا يستغنون عن علمهم وعن حديثهم، فلو كان كل من حصل منه خطأ يترك ويترك ما عنده، لتركت هذه المجلدات الكثيرة التي ألفها بعض أهل العلم من المحدثين الذين حصل منهم شيء من الأخطاء في العقيدة، مثل ما حصل للإمام البيهقي رحمة الله عليه، فإن له كلاماً في العقيدة في بعض الجوانب لم يصب فيه، قيل: إن السبب في ذلك هو من المشايخ، حيث يحصل بسببهم شيء من المخالفة في بعض الأمور، والإمام البيهقي محدث وإمام كبير، وله كتاب (السنن الكبرى) في مجلدات كثيرة، والناس يرجعون إليه وإلى علمه، فلو كان كل من حصل منه خطأ يترك من أجل ذلك فلن يسلم أحد من أن يترك، وكل الناس سيتركون، أو لا يسلم من الترك إلا من شاء الله عز وجل، فمن ذا الذي يسلم من الخطأ؟ وإنما الذي ينابذ هو المبتدع الذي يدعو إلى بدعة، وأما إنسان من أهل السنة وممن خدم السنة، واجتهد في نفع الناس، ثم حصل منه خطأ فإنه لا يترك، ولا تترك جهوده، ولا يحذر منه، وإنما يحذر من خطئه وزلته، وينتفع بعلمه، ويدعا له، ويحث على الاستفادة من علمه.

قوله: [وقال صالح بن كيسان عن الزهري: في هذا المشبهات، مكان (المشتهرات)]، أي: أن صالح بن كيسان عبر بقوله: (المشبهات) بدل (المشتهرات)، وكل منهما صحيح، فالمشتهرات هي التي اشتهرت بغرابتها، والمشبهات هي التي فيها شبهة، وهذا مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى) الحديث.

قوله: [وقال: لا يثنينك، كما قال عقيل] أي: في الرواية التي ساقها المصنف، ولم يقل: (ينئينك) كما قال معمر.

قوله: [وقال ابن إسحاق عن

طور بواسطة نورين ميديا © 2015