قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب لزوم السنة.
حدثنا يحيى بن أيوب حدثنا إسماعيل -يعني ابن جعفر - أخبرني العلاء -يعني ابن عبد الرحمن _ عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً)].
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب لزوم السنة.
ولزوم السنة: هو الثبات عليها، والأخذ بها، والبعد والحذر مما يخالفها، وقد سبق أن مر قبل هذا الباب باب يشبهه، وهو بلفظ: باب في لزوم السنة، وهذا الباب: باب لزوم السنة، ومؤداهما واحد، إلا أننا نجد أن أكثر ما في هذا الباب الثاني هي الآثار، وأما الباب الأول الذي تقدم فكله أحاديث مرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا أدري ما وجه هذا التفاوت في التبويب مع أن الترجمة واحدة تقريباً، إلا أن الأول فيه زيادة (في)، أي: باب في لزوم السنة، وهذا باب لزوم السنة.
وأورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً)، وهذا الحديث عظيم، وهو يدل على عظم شأن الدعوة إلى الخير، وكثرة ثوابها وأجرها، ويدل أيضاً على خطر الدعوة إلى الضلالة، وكثرة عذابها وآثامها.
وفي هذا الحديث أيضاً الحث على الدعوة إلى الخير، والدعوة إلى الهدى، والدعوة إلى الكتاب السنة، ولزوم ما كان عليه سلف هذه الأمة؛ لأن في ذلك الخير والثواب من الله عز وجل، والله تعالى يثيب الداعي على دعوته سواء قُبل منه أو لم يقبل، وسواء استجيب له أو لم يستجب؛ لأنه أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ولأنه دل على الخير وحذر من الشر، فهو مأجور على فعله، وإن استجيب له فإن الله تعالى يأجر ذلك المستجيب له على عمله، ويأجر من كان سبباً في هدايته مثل أجره، أي: أن الداعي يجد من الأجر مثل أجر المدعو الذي يستجيب للدعوة ويعمل عملاً صالحاً، ثم وضح ذلك بقوله: (من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئاً) أي: أن هذا الثواب الذي يجده الداعي بسبب اهتداء غيره على يديه ليس مأخوذاً من أجر المدعو، أو أنه بعض من أجر المدعو، وإنما يكون أجر المدعو له كاملاً، والله تعالى يثيب الداعي بمثل ما أثاب به المدعو تفضلاً منه وإحساناً؛ لأنه هو الذي دله على الخير، وهو السبب في هذا الخير الذي حصل لذلك المدعو، فقوله صلى الله عليه وسلم: (من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً) فيه احتراز لئلا يظن أن هذا الأجر الذي يناله الداعي من الله هو جزء من الأجر الذي يجده المدعو على عمله الصالح، والذي يظفر بهذا الأجر العظيم وهذا الثواب الجزيل على التمام والكمال هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو الذي دل أمته على كل خير، وحذرها من كل شر، فله أجور أعماله صلى الله عليه وسلم، وله مثل أجور أمته كلها من أولها إلى آخرها، فمن دل على هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، وهذا يدل على عظم مكانته وعلو منزلته، وأسعد الناس حظاً ونصيباً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقتضى هذا الحديث هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم وأرضاهم؛ لأنهم هم الذين تلقوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم الحق والهدى، ونقلوه إلى الناس، ودلوا الناس عليه، فكل من حفظ سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغها للناس، وعمل بها الناس من بعده، فإنه يكون مأجوراً على ذلك بمثل أجور كل الذين عملوا بهذه السنة التي جاءت من طريقه، ولهذا فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم وأرضاهم، هم الواسطة بين الناس وبين رسول الله عليه الصلاة والسلام، فما عرف الناس حقاً ولا هدىً إلا عن طريق الصحابة، فهم الذين تلقوا الكتاب والسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الذين نقلوهما إلى الناس من بعدهم على التمام والكمال، فلهم أجور أعمالهم، ولهم مثل أجور من استفاد خيراً بسببهم، وكل سنة رواها صحابي عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ثم تلقاها الناس عنه وعملوا بها، فإن ذلك الصحابي الذي حفظها وأداها له مثل أجور كل من عمل بهذه السنة التي جاءت من طريقه.
وعلى العكس من ذلك: الدعوة إلى الضلال، فإن من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه من غير أن ينقص من آثامهم شيئاً، أي: أن هذا الذي دعي إلى الإثم وأخذ به فإنه يعاقب ويؤاخذ على ضلاله الذي حصل، ثم يعاقب الداعي الذي دعاه إلى الضلالة، فيكون عليه من الإثم مثل آثام ذلك الذي دعي وعمل بتلك البدعة، أو بذلك الأمر المحرم، فكما أن من دعا إلى هدى له من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، فكذلك من دعا إلى ضلالة فإن عليه من الإثم مثل آثام من تبعه ولا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً، فهذا يدلنا على الترغيب في الخير، والدعوة إلى الحق والهدى، وبيان ما فيه من الأجر العظيم والثواب الجزيل، ويدل أيضاً على خطر الدعوة إلى الضلال، وما فيها من الإثم العظيم، والخطر الكبير، وأن الواجب على الإنسان أن يحرص على أن يكون من دعاة الهدى، ليظفر بالثواب من الله عز وجل على دعوته سواء استجيب له أو لم يستجب، وإن استجيب له فإنه يؤجر بمثل أجور الذين تبعوه واستفادوا من دعوته، وعلى العكس من ذلك: من دعا إلى ضلالة فإنه يأثم، سواء تضرر بدعوته واستجيب إلى ما دعا إليه من الضلالة، أو لم يستجب؛ لأن مجرد دعوته إلى الضلال إضلال منه لغيره، فهو يأثم بهذه الدعوة، لكنه إن توبع على ذلك فإنه يأثم مثل آثام الذين استجابوا لدعوته إلى الضلال، وهذا من جوامع كلمه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وهو حديث عظيم، فيه الترغيب والترهيب، وكثيراً ما يأتي في الكتاب والسنة الجمع بين الترغيب والترهيب الترغيب فيما هو خير، والتحذير مما هو شر.